سيول سيناء وعادل إمام - خالد الخميسي - بوابة الشروق
السبت 18 مايو 2024 11:25 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سيول سيناء وعادل إمام

نشر فى : الأحد 21 فبراير 2010 - 9:40 ص | آخر تحديث : الأحد 21 فبراير 2010 - 9:40 ص

 «الرزق مش فلوس.. الرزق بيت ومطر وصحة وريحة وحب.. البيت دفا والمطر خير والصحة تاج الراس والريحة هى بهجة الدنيا أما الحب فهو القانون.. قانون بيربطنا كلنا وبيربط كل واحد فينا بربه، الحب هو قانون الاستمرار». وأضاف بصوته العميق: «احنا كلنا بنلف فى فضا واسع، فى فضا واحد، فيه الناس والنبات والحيوان فى دورة واحدة، بيربطهم كلهم نسب ومعرفة، اللى بيقع يبقى علشان يمد نور الحياة لواحد تانى، كلنا ملمومين فى شبكة واحدة ربانية، كلنا فى خدمة بعض ولو مش عارفين».

كان جالسا على الأرض مستندا إلى شجرة ناصعة البياض يطلقون عليها «الحماطة» تضوى بلمعان خفى رغم حزنها الدفين، كان يضع قدمه اليسرى تحت عجيزته ويحتضن بذراعه اليمنى ساقه اليمنى. يمسك بفرع شجرة رفيع وهو يلعب به لتحريك أوراق شجر ساكنة على الأرض. بيننا استقر براد شاى هائل فوق حطب يتآكل ببطء بفعل النيران. كان شيخا تجاوز الثمانين، أسنانه تآكلت هى الأخرى من نيران سجائره التى لا يتوقف عن مص رحيقها الأسود. وكان يجلس إلى جانبه حسن وهو رجل فى الثلاثين من العمر يمتلك جنينة مجاورة يتلفح بعقال سيناوى، يتحدث نادرا.

كان البرد يتسلل بحنكته المعهودة فى نخاع العظام ويضرب بلا هوادة جهازى العصبى ونحن نجلس فى واد يرتفع أكثر من ألفى متر عن سطح البحر، على مقربة من قصر عباس. هذا القصر الذى لم يكتمل بناؤه بسبب مقتل صاحبه عباس حلمى الأول، هذا الرجل الذى أغلق ينابيع مياه التنمية والحياة فى كل أنحاء المحروسة، ولكنه قبل مقتله أكمل تمهيد الطريق الذى سلكته وأنا أصعد إلى الجبل الذى يحمل حتى الآن اسمه، كما يحمل حى العباسية اسمه أيضا، وكان قد أمر ببناء قصره هذا بعد أن نصحه الأطباء بقضاء وقت فى مكان بمواصفات منطقة كاترين علاجا لمرض الدرن الذى أصابه، أو هكذا تُروى الحكاية.

التاريخ ليس عادلا، غير منصف، لا أخلاقى وغبى أحيانا. جبل وهذا الحى العظيم فى عاصمتنا على اسم رجل لم يترك للوطن غير التخريب والتخلف والرجعية. أخذت نفسا عميقا بدلا عن عباس فسرت نشوة «الريحة» فى روحى. هذا هو رزق يومى. أشار لى الرجل إلى الحماطة وقال لى: «شايف حزينة إزاى؟ دبلانة وعروقها نشفانة.. من سنين ما اتروتش.. السنة دى وبعد أكتر من 17 سنة جات أخيرا السيول اللى احنا كلنا منتظرينها سنة ورا سنة.. خير كتير وح يعم على الجميع».

سألتهم عن ضحايا السيول فأجاب الشيخ: «لازم يموت شىء علشان يحيى شىء.. بص حواليك.. الموت لسة فى كل مكان، وفجأة بعد السيول، ظهرت الحياة أخيرا، بخشا صحيح، لكن جات السيول جامدة والحمد لله وح تنتصر الحياة أخيرا.. بص على البير ده.. ما فيهوش ميه من سنين وسنين، بص دلوقتى البير مليان على آخره. كل آبار المنطقة اتملت بالخير.. اتملت بالحياة. حفيدى داخل أولى ثانوى ماشفش البير ده مليان ميه إلا السنة دى. رزق كبير». قلت لهم إننى لم ألتق على مدار العشرة أيام التى قضيتها فى جنوب سيناء بين الطور وكاترين ونويبع واحدا من بدو سيناء إلا وكان يشكر ربه على السيول. ويتمنى تكرارها كل عام.

لا يتذكر أحد فترة جفاف فى طول ما سبق واختبروه من قسوة الجفاف خلال السنوات الماضية. كان أحد أقرباء حسن قد توفى جراء السيول ولكنه أكد لى أن الموت حق والسيل حياة. كانت البهجة تعم حقيقة على الجميع، الإنسان والحيوان والنبات فى جنوب سيناء. بدأ حسن فى صب أكواب الشاى المختلطة بأعشاب الحبق، وتفكرت أنا فى منظور أبناء وادى النيل للسيول كمصدر للخراب ومنظور أبناء الصحراء للسيول كمصدر للحياة، وعلاقة كل حضارة بالطبيعة الخاصة بالطرف الآخر، وتعجبت. وذهب الشيخ الجليل وهو يرتشف من كوبه ويسحب الدخان إلى منطقة موغلة فى جوفه إلى منطقة مجهولة، وأصبح فجأة الحاضر الغائب.

انتهز حسن الفرصة وقال لى إنه برغم بهجته غير العادية هذا العام بسبب السيول إلا أنه حزين من عادل إمام. سألته عن السبب فقال لى إنه استمع من أكثر من شخص أن عادل إمام قادر وحده على سداد ديون مصر بالكامل. ولكنه عندما التقى رئيس الجمهورية حسنى مبارك وتحادثا فى الأمر، أبدى عادل نيته فى سداد الديون المصرية، ولكنه اشترط على حسنى مبارك فى مقابل كرمه ووطنيته أن تقبل الحكومة وضع صورة عادل إمام على أوراق البنكنوت. وصمم على ذلك. اجتمع الرئيس بمعاونيه وفكروا وانتهوا إلى رفض طلب عادل. «طبعا لازم يرفضوا.. يبقى نشيل أبوالهول والقلعة ونحط صورة بنى آدم! ما يصحش برضه.. هل ممكن يكون عادل بالشكل ده.. ده أنا كنت بحبه قوى.. بس من هنا ورايح والله مانيش ح اتفرج على أفلامه».

لم يعطنى حسن الفرصة كى أرد عليه للدفاع عن عادل إمام وعن الفنانين، قام وبدأ فى جمع أعواد طويلة من البوص كانت منتشرة على أرضية الجنينة. هبت ريح سقيعية ارتجف لها قلبى وتساءلت لماذا تداخل كل الألوان الرائعة البهاء فتحيل الصورة إلى اللون الذى لا لون له؟

تهت داخل دورة العبث المجنونة التى ندور فى فلكها، وتمنيت كما تمنى الفلاسفة أن نفهم ولو لثانية واحدة حقيقتنا.

خالد الخميسي  كاتب مصري