هل يحل الاكتفاء الذاتي مشكلة النقد الأجنبي؟ - أيمن زين الدين - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 2:29 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل يحل الاكتفاء الذاتي مشكلة النقد الأجنبي؟

نشر فى : الجمعة 22 مارس 2024 - 7:30 م | آخر تحديث : الجمعة 22 مارس 2024 - 7:30 م

التفاؤل الذى صاحب إعلان الاتفاق الاستراتيجى مع الاتحاد الأوروبى، والتوصل إلى اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولى، ومن قبله اتفاق إنشاء مدينة رأس الحكمة، لم ينتقص من الاقتناع بأن هناك حاجة ملحة لإيجاد حل دائم لمشكلة مصر الاقتصادية، وأن هذه المشكلة لا تكفى معها مثل هذه الخطوات.
ومن بين الآراء التى طرحت مؤخرا، رأىٌ يبدو أن له أنصاره داخل دوائر اتخاذ القرار وخارجها، مؤداه أن جوهر مشكلة مصر هو الأزمة المزمنة فى النقد الأجنبى، وأنه ربما كانت هذه الأزمة فرصة لتحويل الصعوبات الكبرى التى واجهتها مصر فى الاستيراد خلال العامين الأخيرين إلى سياسة متعمدة لتقليص الواردات والاتجاه نحو الاعتماد على الذات أملا فى أن يؤدى ذلك إلى تطوير الإنتاج المحلى، وهو رأى يعكس قنوطا من فرص إحداث زيادة كافية فى موارد النقد الأجنبى من المصادر التقليدية كالتصدير وتحويلات العاملين فى الخارج والسياحة ودخل القناة والاستثمار، على الأقل فى المدى القريب، وصعوبة الاعتماد على الاقتراض فى جلب موارد كافية ومستدامة.
فهل تجد مصر طريق الخروج من أزمتها الاقتصادية بالتعامل مع مشكلة النقد الأجنبى عبر تحجيم الواردات والاتجاه نحو درجة أعلى من الاكتفاء الذاتى ومن الاعتماد على النفس؟
• • •
بداية، فهذه الأفكار ليست جديدة، إذ إن استراتيجيات التنمية القائمة على الاعتماد على النفس والاكتفاء الذاتى، سواء فى إطار رأسمالى أو اشتراكى، راجت بين الدول النامية فى مرحلة ما بعد الاستعمار، ومنها مصر، رغبة فى تقليص الروابط مع الاقتصاد العالمى، وكان وقتها مرادفا لإنهاء علاقات التبعية للقوى الاستعمارية التى تحول دون الخروج من التخلف والفقر وممارسة الاستقلال بصورة فعلية. كان أنصار هذه الاستراتيجية يرون أن ما تنطوى عليه من تضحيات هو السبيل لتحقيق تنمية اقتصادية مستقلة، بأقل قدر من الضغوط والأزمات التى يسببها الارتباط بالاقتصاد العالمى.
إلا أن الفترة الممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى السبعينيات شهدت منافسة بين هذا النهج، ونهج مقابل اختارته دول أخرى، أبرزها اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وهونج كونج وسنغافورة، بالإضافة إلى شيلى فى أمريكا اللاتينية، يقوم على الاندماج فى الاقتصاد العالمى، وفتح الأبواب أمام التبادل التجارى تصديرا واستيرادا، ودعوة الاستثمار الخارجى كمصدر لرأس المال والتكنولوجيا وأساليب الإنتاج والإدارة والارتباط بشبكات التوريد والتوزيع العالمية. ارتبط هذا المسار ارتباطا وثيقا بمقتضيات الحرب الباردة، حيث تلاقى توجه هذه الدول، الواقعة فى نقاط تماس استراتيجية فى الحرب الباردة، مع رغبة الولايات المتحدة فى محاصرة الاتحاد السوفيتى بدول حليفة ناجحة وقوية، فاستثمرت فيها استراتيجيا واقتصاديا بإرادة قاطعة على إنجاحها.
أما مصر، وبعد أن خاضت تجربة الاعتماد على النفس والحد من الارتباط بالاقتصاد العالمى منذ بداية الستينات، قرر الرئيس الأسبق أنور السادات إجراء تحول جذرى نحو تحرير الاقتصاد داخليا وخارجيا فيما أسماه «الانفتاح الاقتصادى» الذى شرحه فى «ورقة أكتوبر» التى أعلنها فى أبريل 1974، أى منذ خمسين عاما بالتمام. وقد لاقت هذه الأفكار صدى لدى قطاعات واسعة من المجتمع الذى عانى لسنوات من ضيق الاختيارات وشح السلع، لا سيما بعد أن اطلع على الأنماط الاستهلاكية التى سادت فى دول المهجر العربية.
جاء هذا التحول ضمن مد اتسع تدريجيا، خاصة فى التسعينيات حتى شمل غالبية دول أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا وشرق أوروبا، بما فيها دول كبرى مثل روسيا والصين والهند والبرازيل والمكسيك، بعد أن وصلت إلى استنتاج أن سياسات الانعزال والاكتفاء الذاتى لن تفى بتطلعاتها التنموية، ولا بمتطلبات الحفاظ على مستويات المعيشة فيها فى ظل الزيادة المستمرة فى السكان. سَهَّل من الأمر أن العلاقات الاقتصادية الدولية تخطت مرحلة الاستعمار التقليدى، بل حتى الانقسام الصارم للحرب الباردة، وأصبحت هناك مساحة أوسع للاعتماد المتبادل وإعادة تقسيم العمل الدولى تسمح للدول النامية بتحقيق التنمية والحصول على ما تفتقده من رأس مال وتكنولوجيا ومعارف إدارية وأسواق وروابط بشبكات التوريد والتوزيع العالمية، حتى أنه لم يبق فى العالم من يتمسك بسياسات الانعزال إلا دول مثل كوريا الشمالية وكوبا، وبقدر ما إيران ومؤخرا فنزويلا، نتيجة لمزيج من الاختيار الطوعى، والحصار الاقتصادى من القوى الغربية فى الأساس.
إلا أن مناهج الدول المختلفة فى إدارة اندماجها فى الاقتصاد العالمى، وما حققته من نتائج، كانت متباينة، نتيجة تباين نجاحها فى وضعه ضمن برامج تنموية حقيقية، وصيغ اجتماعية فعالة. فبعضها حقق نقلة اقتصادية كبيرة، كما حدث فى الصين والهند والبرازيل والمكسيك، حتى وصلت إلى مصاف الدول المتقدمة أو أوشكت، بينما بقى البعض يراوح مكانه، دون أن ينال من الاندماج فى الاقتصاد العالمى سوى العصف بقطاعاته الصناعية والإنتاجية، وإضعاف هياكله الاقتصادية، وإزكاء النزعات الاستهلاكية القائمة على الاستيراد، والعجز المزمن فى ميزان المدفوعات، وغياب سياسات اجتماعية تتيح التوزيع المتوازن لعوائد النمو، كما حدث فى دول مثل روسيا والأرجنتين.
وتقتضى المصارحة الاعتراف بأن مصر كانت من الدول التى لم تنجح فى الاستفادة من الاندماج فى الاقتصاد العالمى، نتيجة سياسات اقتصادية أضاعت جل تدفقات النقد الأجنبى التى بلغت مئات المليارات من الدولارات مع عودة الملاحة إلى قناة السويس، واستعادة دخل حقول بترول سيناء بعد انسحاب إسرائيل منها، والموجات المتعاقبة من المساعدات الاقتصادية العربية والغربية بعد حرب 1973، ثم بعد معاهدة السلام عام 1979، وكذلك بعد حرب تحرير الكويت عام 1991، ثم فى العشر سنوات الأخيرة، وما حصلت عليه من قروض، فضلا عن التحويلات الضخمة للمصريين العاملين فى الخارج، وهى الموارد التى اتجهت نسبة كبيرة منها إلى الاستيراد والتوسف فى أنشطة استهلاكية وهامشية مثل الوكالات التجارية، وامتيازات سلاسل المطاعم العالمية، والمجمعات التجارية، والتنمية العقارية وما شابهها، على حساب توسيع وتعميق القدرات الإنتاجية والصناعية لغياب سياسات تنموية تضع ذلك فى قلبها، فتزيد فرص العمل، وترتقى بمستوى المعيشة، وتزيد من موارد النقد الأجنبى. والحقيقة أن هذا النمط وضعت أسسه من البداية حيث شاع وصف ما جرى بأنه «انفتاح استهلاكى«، أو «انفتاح السداح مداح» على حد وصف الراحل الكبير أحمد بهاء الدين.
بعبارة أخرى، فإن ما تعانيه مصر لم يكن نتيجة الاندماج فى الاقتصاد العالمى فى حد ذاته، بقدر ما كان نتيجة عدم مواكبته بسياسات تُمَكِّن مصر من توظيفه فى تحقيق طفرة تنموية وبناء اقتصاد مستقر ومتوازن.
• • •
مع ذلك يبقى سؤالان جوهريان: حتى لو قبلنا بما سبق، ألا يمكن أن يجد الاقتصاد المصرى فرصة لاستعادة عافيته من خلال تقليص حاد لكن مؤقت للواردات، يعود بعدها للاندماج فى الاقتصاد العالمى على أسس أكثر صلابة؟ وإذا لم يكن ذلك ممكنا، فما البديل؟
الرد على السؤال الأول يحسمه تحليل هيكل واردات مصر. حيث إن ما يزيد على 80% منها هى المواد خام وسلع وسيطة ومعدات تستخدم فى الإنتاج اللازم لتلبية احتياجات السوق المحلية والتصدير، وسلع استهلاكية حيوية مثل الأدوية والمستلزمات الطبية والمنتجات الغذائية الأساسية. وفى المقابل، ورغم كل ما يقال عن الواردات الترفية والاستفزازية، فإن حجمها ــ حتى بتعريفها الواسع ــ لا يتعدى 5% من إجمالى الواردات.
يوضح ما سبق أن أى وفورات فى فاتورة الاستيراد ستأتى على حساب الإنتاج المحلى، بما فى ذلك ما يوجه إلى التصدير، أى أنها ستؤدى إلى تراجع النمو وتفاقم عجز النقد الأجنبى، وبالتالى تخفيض مستوى المعيشة، خاصة مع نقص البضائع وتهالك السلع التى تحتاج إلى قطع غيار مستوردة. إلا أن الخسارة الأكبر ستكون فى الرسالة السلبية التى ستصل إلى المستثمرين، خاصة الأجانب، بأن مصر ساحة مغلقة غير مناسبة للاستثمار والإنتاج، وهو ما سيُبْقِى الاقتصاد المصرى يدور فى دوائر متصلة من أزمات نقص السلع، وضمور الصناعة، وتآكل مستوى المعيشة.
أما الخيار البديل فهو إصلاح نهج اندماج مصر فى الاقتصاد العالمى وليس التراجع عنه، وذلك بعلاج ما يعانى منه الاقتصاد المصرى من اختلالات هيكلية ومن عيوب فى السياسات، لتستفيد من الفرص التى يتيحها الاندماج فى الاقتصاد العالمى، وتجنب المصير القاتم لخيار الانعزال والانغلاق. أى أن ما تحتاجه مصر هو ألا تقنع بالخيار السهل ومد أرجلها على قدر لحافها القصير، وإنما بأن تعمل على زيادة حجم هذا اللحاف على قدر أرجلها الممدودة.
الحقيقة أنه لم يعد لدى مصر مفر من ارتياد الطريق الشاقة لهذا الخيار بكل عزم وصبر ومنهجية، من خلال وضع القطاع الإنتاجى فى قلب السياسة الاقتصادية، واستخدام الأدوات المالية والنقدية والإدارية لتوجيه ما يتدفق من رءوس الأموال إلى الاستثمار الإنتاجى والصناعى، وبعيدا عن الاستثمار العقارى، خاصة الفئة المتميزة منه، التى يتركز الطلب عليها فى أغراض الاكتناز، أى أنها تُخْرِجَ هذا الاستثمار من دورة رأس المال وحركة الاقتصاد؛ وتحسين مناخ الاستثمار الإنتاجى والصناعى وتذليل العقبات التى تعترضه؛ ووضع سياسة صناعية متكاملة وطموحة محورها القطاع الخاص والاستثمار الأجنبى. هذه كلها أمور أدواتها معروفة وسبق مناقشتها وشرحها بالتفصيل، وبالتالى ليس مطلوبا سوى الشروع فى تنفيذها بكل جدية، قبل أن يأتى علينا يوم وقد تبددت المكاسب التى تحققت فى الأسابيع الأخيرة، ووجدنا أنفسنا فى موقف أصعب مما كنا فيه، لكن دون إمكان أن نجد فرصة إنقاذ جديدة كهذه.

أيمن زين الدين قانوني وسفير سابق
التعليقات