عن الدولة العميقة والثورة فى مصـر - أحمد حاتم المصرى - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 9:54 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن الدولة العميقة والثورة فى مصـر

نشر فى : الإثنين 23 أبريل 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 23 أبريل 2012 - 8:00 ص

سيتوقف المحللون والمؤرخون طويلا بالتأمل والتفسير أمام خطوة إقدام اللواء عمر سليمان نائب الرئيس المخلوع ووزير مخابراته على ترشيح نفسه رئيسا للجمهورية فى مرحلة ما بعد الثورة، باعتبار ذلك مفتاحا مهما للكشف عن مدى عمق ــ أو ضحالة ــ «الدولة العميقة» فى مصر، وعلاقات التناغم أو الصراع داخلها، وطبيعة رؤيتها لذاتها وللوطن، ونواياها وسلوكها تجاه ثورة يناير وأطرافها المختلفة، ومدى سلامة حسها الأمنى والسياسى، ومدى إمكانية ائتمانها على عقل وقلب ومستقبل مصر.

 

الدولة العميقة ــ التى كثر الحديث عنها مؤخرا اتصالا بالشأن المصرى ــ مصطلح مأخوذ من واقع السياسة التركية، ويُقصَد به ذلك الهرم الغاطس تحت الماء أو جبل الجليد الذى يحتل قمته الظاهرة فوق السطح عناصر من المؤسسة العسكرية، والمخابرات بشقيها الخارجى والداخلى، والجهاز القضائى، والمافيا الاقتصادية ــ ليس بالضرورة القيادات العليا ــ الذين يحددون توجه الدولة وأولوياتها وخططها ويتخذون القرار فى الدولة. ولا يتطابق التسلسل الإدارى فى سلطة الدولة بالضرورة مع ترتيب السلطة داخل الدولة العميقة.

 

وتحرك قيادة الدولة العميقة شبكة تابعة خفية تشكل جسم الهرم الغاطس، وتتكون من رجال أعمال وبعض البيروقراطيين والمثقفين والإعلاميين والفنانين والرياضيين، الذين يقومون «بالتخديم» على رغبات الدولة العميقة، فى العادة مقابل منافع سياسية واقتصادية واجتماعية. ويأتى فى سفح الهرم «البلطجية» الذين يقومون بالتنفيذ اليدوى لعمليات الردع والقهر والإجبار لصالح الدولة العميقة فى أدنى صوره وأكثرها مباشرة.

 

●●●

 

ولا تختلف الدولة العميقة فى مصر عنها فى تركيا. إذ ينطلق أعضاء الدولة العميقة فى البداية من عقيدة وطنية راسخة، ومن يقين جازم بأن الدولة تتسم بالعظمة وأنها «على الحافة» وعرضة للمؤامرات الخارجية والداخلية بشكل دائم، وبالتالى يقاومون الديمقراطية، والحكم المدنى، وتوجهات الإسلام السياسى ويرون فيها معاول لهدم الدولة من خلال الإضعاف التدريجى لوحدتها وهيبتها. كما يعتبر عناصر الدولة العميقة أنفسهم الحراس الحقيقيين على الدولة والوطن، والأجدر بوضع وتفسير المصلحة الوطنية وشكل الدولة وعلاقة المجتمع بالدولة، باعتبارهم أفضل أبناء هذه الدولة: أكثرهم إخلاصا، وأشدهم شجاعة وتضحية، والأعظم كفاءة وطهرا، والأعمق ثقافة وعلما، والأقل قابلية للشراء والإفساد.

 

وتعمل الدولة العميقة فى الخفاء «على راحتها» بلا رقيب على قراراتها وميزانياتها وشبكة علاقاتها. ومع الوقت وتشعب شبكات الأعمال والمصالح والزبائن، ترتبط مجموعة الدولة العميقة بهذه المصالح والشبكات ارتباطا عضويا يغير من أولوياتها للدولة ويؤثر على سلامة قرارها، كما يتسلل إليها بالتدريج عوامل التحلل والفساد وتبدأ فى التمحور حول ذاتها واحتكار قرار الدولة بشكل تام وخفى وتحريفه لتكريس وضعيتها المتميزة.

 

●●●

 

وتضع الدولة العميقة فى خانة الأعداء أو الخصوم تلك الجماعات التى لا تتفق مع منطلقاتها وغاياتها، أو لا تتطابق معها فى رؤيتها للمصلحة الوطنية، فضلا عن الأطراف التى تنازعها السيطرة على القرار السياسى والموارد والامتيازات الاقتصادية. وهى بذلك تعادى الإسلاميين، وتناصب العداء الاشتراكيين، والديمقراطيين، والشباب الناشط سياسيا ومجتمعيا، وترى فيهم معاول لهدم الدولة وخداما لأجندات غير وطنية.

 

بالتعريف إذًا، ومن باب أولى، تعادى الدولة العميقة الثورات الشعبية وتعتبرها أخطر أعدائها، حيث من المؤكد أن تحرص الثورة على الإنهاء الكامل السريع، وربما العنيف، للوضعية الخاصة لهذه النخبة من الشبكات غير المعلنة بروافدها العلنية والسرية وتفكيك مفاصلها والقضاء على مصالحها الواسعة. ومن ثم، فمن المفهوم أن تسعى الدولة العميقة للقضاء على الثورة بكل السبل الممكنة.

 

●●●

 

زلزلت ثورة 25 يناير الدولة العميقة فى مصر وضربتها فى مواضع موجعة، كما كشفت مدى خوائها وضعف كفاءتها الفكرية والعملياتية والعَقَدية، وأعملت فيها معاول الهدم المفاجئة المتواصلة. ولكن ترنح الدولة العميقة لم يكتمل سقوطا: فبينما ذهبت الثورة للاحتفال بسقوط الرأس وترنح الجسد، أدركت الدولة العميقة أن المعركة مع الثورة هى معركة مصير: حياة أو موت، وبدأت على الفور فى تنظيم صفوفها وتوجيه الضربات المدروسة للثورة. وبعد فشل مساعى إجهاض الثورة، بدأت خطة إجهادها عبر مرحلة زمنية تم خلالها تطبيق جميع أساليب الحرب المخابراتية والنفسية، وصولا إلى الإجهاز على الثورة ــ أو على الأقل زخمها الدافق ــ بنهاية الفترة الانتقالية.

 

وقد تم إخفاء تحرك الدولة العميقة فى مصر للقضاء على الثورة من خلال مسار قانونى إجرائى شكلى وتمرير هذه المخططات بكفاءة تكتيكية فائقة لا تتسق مع القصور البالغ ــ المفاجئ والمقلق ــ فى الرؤية الاستراتيجية للدولة العميقة. وتم التوصل على الأرجح إلى ترتيب تكون فيه السلطة التشريعية للتيار الإسلامى، بعد عزله عن التيار الثورى، وذلك باعتبار الإخوان المسلمين والسلفيين الكيانين السياسيين الأكثر تنظيما وشعبية والأوسع سيطرة على مفاصل المجتمع، مع عدم ممانعة الدولة العميقة فى تحرك هذا التيار بنشاط على الساحة السياسية ولكن فقط فى الحدود التى لا تؤثر على نفوذ الدولة العميقة، ولا على سيطرتها على الأيادى والمفاصل الأمنية والقضائية والإعلامية للحكم والقرار.

 

ثم بدا فجأة أن الزمام آخذ فى الإفلات من الدولة العميقة مع قرب الانتهاء المفترض للمرحلة الانتقالية، إذ إنه فى اللحظة الفارقة غلب التناقض الأصيل فى الرؤية والمنهج والأهداف وانعدام الثقة العميق المتبادل على الوفاق المرحلى القائم على اتفاق المصالح وتشابه الخلفية الاجتماعية المحافظة والعقلية التنظيمية، بين المجلس العسكرى وقوى الدولة العميقة من جانب وبين قوى المرجعية الإسلامية الصاعدة بعد الثورة من جانب آخر، ناهيك عن تفاقم التناقضات التى لم تختف منذ البداية بين الدولة العميقة العجوز وقوى الثورة والشباب.

 

●●●

 

من السذاجة السياسية أن نتصور أن عناصر الدولة العميقة فى مصر ستستسلم بسهولة ودون ضغوط كافية وتتخلى عن مواقعها ومنافعها وسيطرتها على قرار الدولة ومواردها، لاسيما إذا كان ذلك التنازل لإسلاميين أو ثوريين. بل إنه من المنطقى ــ فى ضوء الشواهد وتطور الأحداث ــ أن يحدث العكس، وأن يكون دفاعها عن نفسها ومصالحها، التى تتصور أنه دفاع عن الوطن ومصالحه، هو الأكثر ضراوة وشراسة فى هذا الفصل الختامى من صراعات المرحلة الانتقالية.

 

وعلى الأرجح، وأيا كانت نوايا المجلس العسكرى بشأن إنهاء أو تمديد أو تفجير المرحلة الانتقالية، ستستمر قوى الدولة العميقة فى التعامل باستعلائها التقليدى الذى لم يعد واقعيا، وفى السعى لفرض وجهة نظرها دون نقاش وبلا تنازلات، على جبهتى الدستور ووضعية المؤسسات العسكرية والأمنية فيه، وانتخابات الرئاسة ومدى «مرونة» أى رئيس محتمل إزاء الحفاظ على المصالح المتجذرة لهاتين المؤسستين.

 

كما ستواصل قوى الدولة العميقة تحركاتها المحمومة لتلجيم الثورة ومرشحيها للرئاسة ومحاصرة الظهور السياسى الإسلامى، ربما عبر التلاعب باستحقاقات المرحلة الانتقالية، وأيضا من خلال تأجيج حالة الإرهاق النفسى والاقتصادى للمواطنين ومحاولة تكريس الاستقطاب السياسى والانقسام المجتمعى المتفاقمة. وهو الأمر الذى يُخشَى معه دخول الدولة العميقة إلى مرحلة جديدة من المواجهة مع الثورة والشارع، تؤدى لانزلاق مصر إلى مشهد عنف حاد يعصف بالوطن

التعليقات