نشرت «الشروق» مقالا بعنوان «معاهدة السلام المفترى عليها» لكاتبها السفير ايهاب وهبة مساعد وزير الخارجية المصرية الأسبق للشئون الأمريكية (18/8/2012) ومع احترام التوجه العام للحجة الرئيسية اذا كان الكاتب يحاول أن يقول من خلالها أن المشكلة اليوم ليست فى نصوص كامب ديفيد بقدر ما هى فى عدم تحركنا بعدها لملء الفراغ فى سيناء، إلا أن الطرح بالمقال يستوجب التعقيب والنقد الموضوعى حيث إنه لا يعبر فقط عن نمط من الحجج يتبناها ويعبر عنها قطاع من السياسيين والدبلوماسيين وغيرهم من المعنيين بالشأن العام.
بل لأنه يعبر عن وجود فجوة على مستوى ممن نسمهم فى لغويات القانون بالنصيين Textualists الذين قاموا ببناء النص والتفاوض حول صياغته كما فى حالة السفير وهبة الذى كان عضوا فى فريق التفاوض بكامب ديفيد أو على مستوى الكثير من السياقيين Contextualists ممن تناولوا المعاهدة بالتحليل والرأى والذين يتسم خطابهم بنفس ملامح هذه الفجوة المعلوماتية وهذا الأمر يعد من أكبر معضلات ومشاكل واقعنا السياسى والاعلامى والقانونى عبر الملفات المختلفة... من هنا أرصد ما يلى من تعقيبات:
أولا: يقول كاتب المقال:
«أعود إلى اللغط المثار حول معاهدة السلام والمبرمة فى عام 79، وذلك من أجل الرد على هؤلاء الذين يبغون التشكيك فى قدراتنا وفى انجازاتنا. أقول لهؤلاء إن معاهدة السلام المفترى عليها قد صيغت بعناية فائقة، ولا أبالغ إذا قلت إن كل كلمة وردت فيها، وكل بند أتت المعاهدة على ذكره، قد أخذ الوقت الذى يستحقه فى جلسات المفاوضات المتعاقبة والتى استغرقت أكثر من ستة أشهر».
ويستطرد سيادته منوها بحجم الفريق التفاوض من دبلوماسيين وقانونيين وغيرهم ممن أخرجوا هذا النص من الجانب المصرى، ولتوضيح الفجوة أعود لمقال سابق كتبته ونشرته «الشروق» وجاء بعنوان «دلالات النص (المختطف) من اتفاق كامب ديفيد (5/8/2011)»، حيث أشرت إلى الـ16 حجة التى كتبها كبير المفاوضين فى اتفاقية السلام وهو رئيس الوزراء الأسبق د. مصطفى خليل والتى سجل من خلالها اعتراضه على أهم جزئية رآها مجحفة وجائرة فى حق مصر ووردت فى نصوص الاتفاقية وهى الخاصة بمذكرة الاتفاق الأمريكى الإسرائيلى والتى اقحمت على الوفد المصرى إقحاما قبل توقيع المعاهدة بأقل من 24 ساعة، وهنا من الضرورى أن أعود إلى الحجة الأولى من الـ16 حجة التى ساقها خليل والتى تفيد بأن مذكرة الاتفاق موجهة ضد مصر وأنه يسجل «انه لم تتم استشارة مصر من قريب أو بعيد بشأن تلك المذكرة «NEVER CONSULTED».. كما يقول خليل فى الحجة رقم (3) «لقد اشتركنا فى المرحلة النهائية للتفاوض على المعاهدة على مدى أكثر من شهر حتى الآن، ومع ذلك لم يحدث وان ابلغنا بنية الولايات المتحدة الاتفاق على مثل هذه المذكرة»، ويضيف قائلا: «وعلاوة على ذلك فإنه قد تمت إحاطتنا بالمذكرة وليس التشاور (أو التفاوض) بشأنها»، وهنا نقول بأن الأمر، وكأنه يعبر عن مثال من أمثله «عقود الإذعان» التى لا يتم التفاوض حول بنودها.. حيث تحولت المذكرة إلى أحد النصوص الملزمة والتى وقعت مصر عليها، ويذهب خليل فى حججه الـ16 ليوضح كيف أن لغة الغموض السلبى التى صيغت بها تلك المذكرة تجعلها مجحفة لمصر فى نهاية المطاف.. مشكلة الطرح الذى ورد فى مقال السفير إيهاب أنه تجاهل تماما اعتراضات كبير المفاوضين نفسه.
من هنا لا يمكن القبول بصحة الادعاء الذى ذكره السفير إيهاب «بأنها المعاهدة المفترى عليها» أو بأن نصوصها «قد صيغت بعناية فائقة» أو أن «كل بند أتت المعاهدة على ذكره، قد أخذ الوقت الذى يستحقه».
المشكلة التى ينبغى علينا تداركها اليوم بخصوص مسألة «فجوة المعلومات» لا تتمثل فقط فيما ورد بنمط الخطاب الذى تضمنه المقال ولكن المشكلة أوسع نطاقا.. لأن تحفظات خليل الـ16 المتجاهلة أصبحت من نصوص الاتفاقية.. المؤسف أنه قد تم «اختطاف» أو «اقتطاع هذا النص المهم» من معظم «نصوص الاتفاقية المتداولة وحتى فى كتاب كارتر» نسل إبراهيم «وفى مواقع وزارة الخارجية الإسرائيلية وفى كتب وثائقية أخرى. هذا فيما عدا مصدر رسمى مهم للغاية، حيث أورد نص خليل وكذلك جاء فيه رد وزارة الخارجية الأمريكية عليه وهذا المصدر هو «النص المعتمد من قبل مكتب الشئون العامة لوزارة الخارجية الأمريكية (الوثيقة رقم 8973)».
من هنا أقترح أن تقوم وزارة الخارجية المصرية وكذلك هيئة الاستعلامات باعتماد ونشر هذه الوثيقة الأمريكية التى تضمنت ذلك النص «المختطف» أو المسكوت عنه فى معظم نصوص المعاهدة المتداولة لاعتماده فى أى إعادة تفاوض أو فى أى تفاعلات أخرى مستقبلية بخصوص هذا الشأن لأنه يفند أهم نقاط الإجحاف بالمعاهدة وقد أثبتت الأحداث والتفاعلات حول الاتفاقية أنه كان مناسبا، وبالتالى يمكن الاستناد إليه كذلك فى تبرير مصر الثورة لفتح ملف إعادة التفاوض إذا رأت ذلك.
●●●
ثانيا: درس ألا نسمح بالاستبداد الرئاسى: أفهم من طرح المقال موضع التعقيب والنقد أن الكاتب كان يدافع عن مجهود وطنى رآه مخلصا وأن المعاهدة قد صيغت بعناية فائقة وأنها عرضت على مجلس الشعب فى استفتاء، وأن ما يُقال عن تساهل أو تقصير من قبل المفاوض المصرى ومن قبل القيادة المصرية هو «مجرد هراء» على حد قوله.. ولكن ماذا عن القول بأن كلا من مصطفى خليل وبطرس غالى قد رفضا مذكرة الاتفاق الأمريكى الإسرائيلى التى نالت من نصوص المعاهدة الأخرى ولم يبالِ السادات برفضهما، ولم يبالِ باعتراضات وزير خارجيته حينذاك محمد ابراهيم كامل وغيره! فهل كان ذلك مجرد هراء؟!
●●●
وأخيرا يذهب السفير إلى أهمية أن نعيد التفاوض حول كامب ديفيد بخصوص المنطقة (جـ) للتعامل مع المستجدات بعد ثلاثة عقود، وأشارك سيادته بأهمية هذا حيث كتبت مقالا منذ 6 سنوات «الإرهاب وإعادة التفاوض حول كامب ديفيد» (الأخبار 4/5/2006). وكان ذلك عقب أحداث الإرهاب المتكررة فى سيناء فى ذلك الوقت والتى لا نزال نعانى منها اليوم.
ولقد أستشعرت حينذاك ولازالت مرارة إلغاء مفهوم إعادة التفاوض (RENEGOTIAION) من قاموس تفاعلاتنا السياسية والاقتصادية الاستراتيجية ليس فقط بخصوص كامب ديفيد بل عرجت فى ذلك المقال على ملفات أخرى مثل ملف الخصخصة حيث ذكرت أن المفاوض الأوكرانى قد أعاد التفاوض حول بيع أكبر مصانع الألومنيوم هناك بعد أن تعرض قبل تلك الثورة لعملية خصخصة جائرة ونجح فى استرداده،(ولم يدر بخلد أى منا أن ثورة مثيلة ستحدث فى مصر) فكم نحن بحاجة إلى تفعيل هذا الأمر فى مصر خاصة بعد ثورة يناير.. ننتهى إذن هنا إلى أهمية اعتماد درس إعادة التفاوض ليس فقط فيما يتعلق بمعاهدة كامب ديفيد «المفترى عليها» بل فيما يتعلق باتفاقات أخرى عديدة، حيث كان كل المصريين هم المفترى عليهم.
والله ولى التوفيق وهو وحده المستعان