العبدلله كاتب هذه السطور أب لثلاثة أبناء فى مراحل تعليمية مختلفة.. أكره شهور الدراسة كراهية التحريم، فبفضلها وفضل نظامنا التعليمى القائم على تلقين المناهج والمعلومات وحفظها ثم قذفها فى لجنة الامتحان، يتحول منزلنا إلى «عنبر العقلاء» فى مستشفى العباسية للأمراض العقلية.
ضجيج معركة «المذاكرة» اليومية يصل إلى مسامع سابع جار، ولا يخلو الأمر من إصابات بعض أفراد الأسرة نتيجة تطاير «فرد الشباشب» فى غرف المنزل على مدى ليالى الدراسة السوداء التى حلت علينا كما يحل الموت فجأة على تارك الصلاة.
منذ أن دخل ابنى الأول «مفرمة» التعليم، وأنا أحلم بنظام تعليمى ينزل علينا السكينة ويجنبنا الانهيار العصبى الذى يستمر معظم السنة، ويرد على زوجتى وأولادى مردا جميلا.
الكابوس الذى يلاحقنى كولى أمر، هو وصول ابنى البكرى وشقيقيه من بعده، إلى محطة الثانوية العامة.. أخطط لميزانية الدروس الخصوصية للأولاد الثلاثة، وبحسبة بسيطة يحتاج طالب الثانوية ما يقرب من ثلاثة آلاف جنيه شهريا بحسابات هذه الأيام، ما يعنى أننى على أن أوفر نحو تسعين ألف جنيه ميزانية مصروفات دروس ثانوية عامة للأولاد الثلاثة، وهو رقم لو تعلمون عظيم على العاملين فى الصحافة هذه الأيام.
تابعت كما تابع غيرى من أولياء الأمور المداولات التى سبقت إقرار نظام التعليم الجديد، لم ألتفت كثيرا إلى ما قيل حول فلسفة النظام والمناهج والتابلت، فجيلى يسمع ذات الكلام منذ أن كان الدكتور فتحى سرور وزيرا للتعليم، وكرر خلفه الدكتور حسين كامل بهاء الدين كلاما مشابها، ومضى الخلف على سنة السلف فى طرح نظريات عن الجودة والاعتماد والتطوير وهكذا.
ما استوقفنى فى النظام الجديد وقبض قلبى هو «تأدية الطالب 12 امتحانا خلال 3 سنوات بالثانوية العامة، وإلغاء الامتحان القومى الحالى، وتجميع نتائج الامتحانات فى نظام حساب المتوسط التراكمى للطلاب (GPA) الذى سيحدد تخرج الطالب من المرحلة الثانوية».
ترجمة ما سبق عمليا، أن الثانوية العامة أصبحت ثلاث سنوات x 12 امتحان، بما يعنى أن كل أسرة ستعيش 36 شهرا من الضغط العصبى وحرقة الدم واستنزاف ما تملك وما لا تملك كى توفر مصروفات الدروس الخصوصية، وفيما يخص العبدلله 9 سنوات من الأشغال الشاقة المؤبدة، 9 سنوات يتحول فيها البيت إلى «مورستان» وأتحول أنا إلى شحات أو فاسد، فالحسبة اختلفت فبعد أن كنت اخطط لتوفير 90 ألف جنيه لتغطية مصروفات الدروس للأولاد الثلاثة، أصبحت فى حاجة إلى 270 ألف جنيه لتغطية سنوات الثانوية العامة المتعاقبة.
فى أكثر من مناسبة أكد وزير التعليم الدكتور طارق شوقى أن النظام الجديد سيعمل على «تجفيف ظاهرة الدروس الخصوصية»، مؤكدا أن الطالب لن يستفيد شيئا منها فى وجود مصادر معرفة متعددة على «التابلت» مع تغيير طريقة صياغة الأسئلة من قياس الحفظ لقياس مهارات التفكير والنقد. وشدد الوزير على أن هذا النظام التراكمى على مدى 3 سنوات لن يتسبب فى زيادة عبء الدروس الخصوصية على عاتق الأهالى.
قد لا يعلم الوزير أنه وفى ظل عدم وجود بنية ملائمة لتطبيق نظامه، ستتحول الثانوية العامة من كابوس العام الواحد إلى كابوس الثلاث سنوات، فالكثافة المرتفعة للطلاب فى الفصول وضعف كفاءة الكثير من المدرسين ورواتبهم المتدنية فى ظل غلاء الأسعار، سيجعل مراكز الدروس الخصوصية تكتظ بالطلاب.
إن تطبيق نظام جديد لم يجرب ولم تضع الدولة بنية أساسية لتطبيقه قد يؤدى إلى نتائج عكسية، بحسب تصريح سابق لوزير التعليم فإن «إيرادات مراكز الدروس الخصوصية تصل إلى 25 مليار جنيه سنويا»، أبشره بان النظام الجديد سيضاعف هذا الرقم ليصل إلى 75 مليار جنيه سنويا.
لن يغلق النظام الجديد باب الدروس الخصوصية، فأبناء الطبقة المتوسطة يدخلون فى سباق كى يلحقوا أولادهم بكليات القمة حتى يتمكنوا من مزاحمة أبناء المدارس الدولية فى سوق العمل، وبما أن المدارس المحلية حكومية كانت أم خاصة لا تمكنهم من إنهاء هذا السباق كما يريدون فلا سبيل أمامهم إلا مراكز الدروس.
أعلم أن النوايا طيبة.. لكن ليس بالنوايا الحسنة فقط تدار المنظومة التعليمية فى دولة مثل مصر.. أخيرا أرجو أن تصل رسالة ولى أمر صحفى محدود الدخل.