يالله.. وكأن الأيام لم تمض، والنظام لم يسقط، والمرحلة الانتقالية لم تنته، والعسكر لم يخرجوا بقلاداتهم، والشرطة لم يعد حكمها فى يد الرئيس المدنى المنتخب.
قامت الثورة، وسقط النظام، ومرت المرحلة الانتقالية بكل جراحها وآلامها، وبقى محمد محمود كما هو ميدان للدم والجراح والألغاز أيضا.
ما يثير الدهشة ليست المواقف السياسية، ولا ردود الفعل وتداعيات الأزمة، بقدر ما هى القدرة العبثية على إنتاج ذات المصطلحات والأسئلة وذات الجمل الرنانة مع تغير أسماء القائلين، وتبدل مواقع المتحدثين.
هل تتخيل أننا حتى هذه اللحظة مازال هناك من يسأل السؤال القديم: هما مين اللى هناك؟ ثم تجد عدة إعلانات تصدر عن عدة قوى وحركات تعلن أنها غير موجودة فى محمد محمود، وبيانات من الشرطة تخلى مسئوليتها عن العنف، وفى النهاية تدهور كبير يتجه دائما إلى طرف ثالث.
الطرف الثالث مازال حيا فى العقول، هو شماعة سهلة جدا ومجربة للتنصل من المسئوليات، سبق أن استخدمها المجلس العسكرى و«نفعت معاه»، فأفلت قادته من جرائم فى محمد محمود وماسبيرو ومسرح البالون، كما استخدمتها الداخلية نفسها ونفعت معاها، ومثلما خرج من يقول سابقا «مفيش خرطوش» تندهش كذلك أن هناك من مازال يقول ذات الجملة بذات الأداء، فيما الخرطوش مستقرة آثاره على أجساد المحتجين.
لماذا أديرت وتدار أزمة محمد محمود الجديدة بنفس طرائق ووسائل الأزمات القديمة، ألم يتغير شىء، ألم يتعلم أى طرف أى شىء جديد، ألم تتراكم أى خبرات مما مضى من جراح وآلام ودماء؟
الحقيقة أن مطالعتك لبيان الداخلية التحذيرى الذى استبق الفعاليات بـ24 ساعة يكفى لتدرك أن الشرطة لم تتعلم أولا ولم تحاول انتهاج لغة خطاب جديدة ثانيا، بعيدة عن الاستفزاز والتعالى، وغير متضمنة تحريض مبطن لقواتها، وغير محترمة حق التظاهر والاحتجاج السلمى، وفى النهاية وحتى إن صدقت رواياتها الكثيرة عن الأحداث بأنها لم تبادر بالعنف، فهى على الأقل استدرجت للعنف، وهذا دليل أن العقل ثابت لم يتغير، والأداء راكد لم يتطور، والفهم السياسى قاصر لم يتعلم من الماضى أى درس.
وبينما لاتزال أسطورة رغبة المحتجين فى اقتحام وزارة الداخلية قائمة، مازال المحتجون أيضا عرضة للاستدراج والاستفزاز بالشكل الذى يخرج احتجاجاتهم عن طابعها السلمى، ويظهرها كذلك أمام ملايين الناقمين على الميدان وثقافة الاحتجاجات، وكأن خبرات لم تتراكم ويُدفع فيها دم.
أيضا مازال الإخوان يتحدثون عن مخططات «الفوضى المنظمة»، ومازال أداء الدولة كما هو، لا تنظر إلى الدماء التى تسيل فى وسط القاهرة، والعنف المتفشى، تبذل الجهد واضحا للوساطة بين ضباط جيش يتعاركون مع ضباط شرطة، لكنها لا تلتفت بجهد ملموس لوقف العنف فى وسط المدينة.
كل شىء فى محمد محمود باق كما هو، الدم والعنف والرصاص، والدولة الغائبة، والجماعة التى تعتقد أن العالم كله يتآمر عليها، والشرطة «اللى معندهاش خرطوش»، والشهداء الذين يواجهون بسؤال هوية: «مين دول»؟.. والطرف الثالث الذى يرفض أن يموت، وكيف يموت وهو شماعة مجربة بنجاح.