من أدخل العلم حياة الناس - محمد زهران - بوابة الشروق
السبت 14 ديسمبر 2024 10:51 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من أدخل العلم حياة الناس

نشر فى : السبت 23 أبريل 2016 - 9:15 م | آخر تحديث : السبت 23 أبريل 2016 - 9:15 م
يتساءل البعض عن أهمية تعريب العلوم والترجمة، ويقولون إن لغة العلم في عصرنا هي الإنجليزية ويجب أن يكون تدريس كافة العلوم بهذه اللغة لأنها لغة النشر العلمي في عصرنا الحديث، وهذا صحيح تماما وأتفق معه ولكن السؤال هنا: ما هو عدد الناس الذين سيعملون في البحث العلمى وينشرون أبحاثا؟ في أمريكا نسبة الحاصلين على درجة الدكتوراه لا تتجاوز 2%! فما هي النسبة عندنا في مصر؟ ومن هؤلاء الحاصلين على الدكتوراه كم منهم سيعمل في البحث العلمي والنشر (أنت قد تحصل على الدكتوراه وتعمل كاستشاري مثلا أو في مجال الأعمال أو تحصل عليها من باب المنظرة أو للحصول على ترقية!). هذه النسبة القليلة هي من تحتاج أن تتعلم وتتقن الكتابة العلمية بالإنجليزية، طبعا تعلم لغة أخرى مفيد في مناح شتى من الحياة، لأنها تفتح أبوابا كثيرة لمعرفة ثقافة الآخرين ولكن هذا موضوع آخر، ما هو الموقف بالنسبة للسواد الأعظم من الناس التي لا تعرف لغة أخرى أو لا تتقنها بالقدر الكافي كي تقرأ بها بسهولة؟ نحن لا نريد من الجميع أن يصبحوا علماء أو باحثين فهذا لن يتأتى ولكن نتمنى أن يتقن "الجميع" التفكير العلمى، التفكير العلمي يساعدك على اتخاذ القرارات في حياتك ويساعدك على تجميع المعلومات بشكل منطقي لفهم ما يحدث حولك وسط شلالات الأخبار والمعلومات في حياتنا، وليس أفضل من قراءة الكتب العلمية للتدريب على التفكير المنطقي، وللأسف يوجد نقص شديد لهذه النوعية من الكتب في مكتبتنا العربية، وإن وجدت تكون أغلبها مكتوبة بطريقة جافة لا تغري بالقراءة، لذلك الترجمة وتعريب العلوم هي الحل الأمثل لإدخال العلم حياة الناس.

وحيث أننا نتكلم عن إدخال العلم حياة الناس فلا أجد مثالا أفضل من شخصيتنا اليوم التي أدخلت العلم حياة الناس بالأبحاث وبالترجمة وبالتدريس وبالمشروعات وبالإدارة!

ولد عام 1815 بمحافظة الغربية وكأغلب الناس في ذلك الوقت بدأ دراسته في الكُتاب، ثم تلقى تعليمه الأولي بالإسكندرية، ثم التحق بمدرسة الترسانة البحرية وتخرج فيها عام 1833، ثم سافر في بعثة إلى فرنسا عام 1850. عندما عاد إلى مصر عُين مدرسا للرياضيات في مدرسة المهندسخانة وكانت تقع ببولاق في ذلك الوقت، وخلال فترة تدريسه ترجم عن الفرنسية أول كتاب باللغة العربية عن علم التفاضل والتكامل وبعض الكتب الأخرى عن الرياضيات. فها هو يدخل العلم حياة الناس عن طريق التدريس ثم عن طريق الترجمة. إنه محمود أحمد حمدي. فماذا عن عطائه العلمي؟

محمود حمدي هو من أنبغ من أنجبتهم مصر في علوم الرياضيات والفلك، درس هذه العلوم دراسة متعمقة في المراجع الفرنسية بعد أن أتقن اللغة الفرنسية، مكث في فرنسا تسع سنوات مع أنه انتهى من دراسته هناك في أربع سنوات فقط، فلم؟ أولا اتخذ من مرصد باريس محل إقامة له وذلك لحبه للعلم ولم يكتف بذلك بل أدخل بعض التعديلات والتحسينات على أجهزة الرصد وأقرها العلماء الفرنسيون، ثم بعد انتهاء دراسته زار معظم مراصد أوروبا، قدم محمود حمدي رسالة في التقاويم الإسرائيلية إلى مجمع العلوم في بلجيكا وأقرها المجمع، وقدم رسالة أخرى إلى المجمع العلمي الفرنسي عن المواد المغناطيسية الأرضية في باريس وأقرها المجمع، ثم نشرت له مجلة للمستشرقين في أوروبا دراسة فلكية عن التقاويم العربية قبل الإسلام وهي دراسة لم يسبقه إليها أحد، هذا وهو في أوروبا.

عندما عاد إلى مصر بدأ عطاؤه العلمي يرتبط بمشروعات وطنية.

كلفه سعيد باشا بوضع خريطة مفصلة للقطر المصري، فوضع ثلاث خرائط حسبما يحكي محمد شميس، في كتابه "عظماء من مصر": خريطة الوجه البحري وخريطة الوجه القبلي وخريطة الإسكندرية، وللخريطة الأخيرة قصة تدل على نبوغ هذا العالم العظيم، فقد خطط معالم الإسكندرية القديمة وبذل في ذلك مجهودات جبارة بمساعدة عدد كبير من العمال والمهندسين في التنقيب والحفر، ونستطيع أن نقول بكل فخر أن محمود حمدي هو رائد علم جديد يجمع بين الفلك والآثار، فخريطة الإسكندرية القديمة لم يسبقه إليها أحد حتى أنها أصبحت مرجعا عند العلماء، وجدير بالذكر أن علماء الحملة الفرنسية في كتابهم الشهير "وصف مصر" لم يصلوا إلى هذه الدقة التي وصل إليها محمود حمدي حين درسوا الإسكندرية، لأنهم لم يقوموا بأعمال تنقيب كما قام هو، بالإضافة إلى كل ذلك فله أيضا أبحاث علمية (كانت تسمى رسائل آنذاك) عن التنبؤ بارتفاع النيل وأخرى عن المقاييس والمكاييل بالديار المصرية وأخرى عن عُمر أهرامات الجيزة، ورسائل أخرى كثيرة تدل على قدراته العلمية في الرياضيات والفلك والآثار والجغرافيا. فماذا عن إنجازاته الإدارية؟

عندما عاد محمود حمدي من فرنسا أصبح عضوا في المعهد العلمي المصري وأصبح رئيسا للجمعية الجغرافية وناظرا (أي وزيرا) للأشغال العمومية، ثم وكيلا لوزارة المعارف ثم ناظرا لوزارة المعارف عام 1884 وظل بها حتى وافته المنية عام 1885.

للأسف لا يعلم الجيل الحالي شيئا عن هذا العالم العظيم ولا يُذكر له إلا شارع باسمه وميدان كان فيه بيته وقد هُدم البيت الذي كان من الأحرى أن يظل متحفا يحوي أدواته وأوراقه، إنه محمود حمدي.. الفلكي!
محمد زهران عضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك فى تخصص هندسة وعلوم الحاسبات، حاصل على الدكتوراه فى نفس التخصص من جامعة ميريلاند الأمريكية، له العديد من الأبحاث العلمية المنشورة فى الدوريات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى الأبحاث والتدريس.. له اهتمامات عديدة بتاريخ وفلسفة العلوم ويرى أنها من دعائم البحث العلمى، يستمتع جداً بوجوده وسط طلابه فى قاعات المحاضرات ومعامل الأبحاث والمؤتمرات، أمله أن يرى الثقافة والمعرفة من أساسيات الحياة فى مصر.
التعليقات