فى بلد أنهكته أزماته وينظر إلى مستقبله بقلق لا يصح وضع أعواد الثقاب المشتعلة أمام أكوام الحطب المتناثرة.
حسب قياسات الرأى العام المتاحة فإن الأغلبية الساحقة من المواطنين يعتبرون جزيرتى «تيران» و«صنافير» مصريتين.
بصورة أو أخرى بدأ الخطاب الرسمى يستشعر شيئا من الحرج البالغ تحت ضغط الاعتراض العام على تسليم الجزيرتين خشية اتهامه بالتفريط فى أرض هى مصرية وفق حكم محكمة القضاء الإدارى يوم (٢١) يونيو الماضى.
غير أن الحرج البادى فى الخطاب لا يعنى توجها لوقف الإجراءات.
أخطر السيناريوهات المتوقعة تجاوز حكم «مصرية الجزيرتين» دون استكمال إجراءات الطعن المنصوص عليها فى القانون أمام الإدارية العليا والذهاب إلى المجلس النيابى لإقرار اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية بأسرع وقت ممكن.
بغض النظر عن الإجراءات القانونية التى تتخذ لوقف تنفيذ الحكم، وهذه مسألة مشكوك فى سلامتها، فإن الخطوة بذاتها تطرح تساؤلات يصعب تدارك خطورتها.
لا يمكن تجاوز قضية حساسة تتعلق بالسيادة على أراضى الدولة واستراتيجية الأمن القومى فى البحر الأحمر بتحايلات قانونية.
إذا لم يكن الرأى العام مقتنعا فإنها سوف تتحول إلى بلورة تستقطب موجات الغضب واحدة بعد أخرى.
من حيث التوقيت قد ينظر إلى تسليم الجزيرتين دون انتظار كلمة القضاء الأخيرة على أنه محض صفقة.
هذا مدمر تماما لأية مصالح استراتيجية مشتركة فى لحظة أزمة تتفاقم بالبلدين على قدم المساواة.
أى تسليم للجزيرتين دون تحكيم دولى أو قواعد معروفة تقنع الرأى العام أن حكومته تحترم الدستور وتصون سلامة أراضيه ينال من النظام السياسى المصرى ويضع شرعيته بين قوسين كبيرين.
بالتداعى الطبيعى للتفاعلات سوف تتولد داخل القطاع الأوسع من الرأى العام المصرى فجوات كراهية مع السعودية لم تكن موجودة من قبل فى أى وقت تحت كل الظروف التى مرت فى العلاقات بين الدولتين.
بقوة الاعتقاد العام سوف ينظر إلى السعودية على أنها وظفت الأزمة الاقتصادية المصرية لفرض شروطها ومطالبها، الآن وفورا، أو أنها استضعفت مصر فى لحظة الأزمة المستحكمة.
بأى نظر للحقائق فإن السعودية مأزومة بقدر ما مصر مأزومة.
أرجو أن نتذكر، قبل أية عواصف منتظرة، أن هناك مصالح استراتيجية مشتركة بين مصر والسعودية تتعدى المقايضات المباشرة.
لقد ساعدت المساندات المالية والنفطية والدبلوماسية بعد تحولات (٣٠) يونيو على تماسك الوضع الداخلى المصرى فى لحظة صعبة غير أن ذلك كان استثمارا استراتيجيا فى الدور والموقع والمستقبل قبل أى شىء آخر لوقف أية تهديدات لنظمه وموازنة صعود النفوذ الإيرانى فى الإقليم.
فى الحساب الأخير المصالح الاستراتيجية تحكمها الحقائق لا المشاعر.
بعد رحيل العاهل السعودى «عبدالله بن عبدالعزيز» طرأت تغييرات دراماتيكية وأزمات مكتومة، كان أهمها التوجه إلى خفض المكون المصرى فى السياسة السعودية والانفتاح بالوقت نفسه على المكون التركى فى بناء حلف سياسى، وربما عسكرى، يوازن إيران ويتفوق عليها، حسب تصريحات تواترت.
فى ذلك الوقت بدأت تلمح القاهرة إلى تراجع مستوى المساعدات الاقتصادية.
وفق مسئول كبير مطلع على تفاصيل ما يجرى: «لم يصلنا شىء منذ صعود الرئيس باستثناء الإمدادات البترولية، وهى مدفوعة الثمن بالأجل».
بصورة ما جرى تجاوز الفجوة التى أخذت فى الاتساع، وبذلت أثناء زيارة الملك «سلمان بن عبدالعزيز» وعودا باستثمارات سعودية واسعة، ووقعت اتفاقيات، لم تنفذ بالجدية، التى كانت متصورة وتولد انطباع هنا فى القاهرة أنها معلقة على إنفاذ اتفاقية ترسيم الحدود البحرية المصرية السعودية.
وكان ذلك ضغطا على الأعصاب المشدودة خشية أى انهيار محتمل فى الوضع الاقتصادى.
فى الحسابات بعض السعودية فإن سيادتها على «تيران وصنافير» تضفى شرعية على نقل الحكم بعد الملك الحالى إلى نجله الأصغر ولى ولى العهد «محمد بن سلمان» على حساب ولى العهد «محمد بن نايف» باعتبار أنه هو الرجل الذى حصل على الجزيرتين، وقاد العمليات العسكرية فى اليمن ويعمل على تطوير الاقتصاد بحيث ينخفض اعتماده على عوائده النفطية بحلول (٢٠٣٠).
غير أن تلك الحسابات تصطدم بالرهانات الأمريكية على ولى العهد الذى يتمتع بثقة واشنطن، فضلاً على أنه أقل جموحا من ولى ولى العهد وأكثر خبرة فى المسائل الأمنية.
فى صدام الحسابات مع الحقائق لم يسفر التدخل السعودى فى اليمن عن حسم عسكرى ولا حل سياسيا وبدت خاصرتها الجنوبية منكشفة فى «نجران» و«جازان»، وهما منطقتان حدوديتان متنازع عليهما، وتوجد عشرات الوثائق والخرائط التى تثبت أنهما يمنيتان دون أن تقبل السعودية بأية مفاوضات فى هذا الملف أو اللجوء لأى تحكيم دولى.
السؤال هنا: لماذا «تيران» و«صنافير» لا «نجران» و«جازان»؟
الأسوأ أن العمليات العسكرية فى اليمن أخفقت فى أى حسم، وبدا الأمر كله توريطا بلا نهاية فوق التضاريس اليمنية الصعبة.
فى الوقت نفسه فإن الحل السياسى يتعثر تماما، والملف اليمنى كله مرتهن للأزمة السورية ومستقبلها.
فإيران الطرف الآخر فى النزاع الإقليمى مع السعودية لن تفرط بسهولة فى الورقة اليمنية قبل أن تضمن مصالحها الاستراتيجية فى سوريا التى تتصدر أولوياتها.
الورطة اليمنية سحبت من رصيد «محمد بن سلمان»، وربما هناك من يعتقد فى الرياض أن «تيران» و«صنافير» يمكن أن يقدما بديلاً مقنعا للأوضاع المأزومة فى اليمن وسوريا والعراق ولبنان ومع تركيا مؤخرا.
تصور أن هناك نصرا سهلا فى مصر هو الوهم بعينه وعواقبه وخيمة على البلدين معا.
فى تحولات الإقليم هناك إشارة تركية إيرانية مشتركة بأنهما القوتان الوحيدتان فى الإقليم اللتان تملكان تسوية الأزمة السورية ورسم مساراتها المستقبلية.
فى الإشارة استخفاف مزدوج بالدورين المصرى والسعودى.
رغم العلاقات التى كانت دافئة بين استنبول والرياض فإن الرئيس التركى «رجب طيب أردوغان« أعلن استعداده للقبول بالرئيس السورى «بشار الأسد« فى العملية السياسية، وهناك إشارات جدية لاحتمال توسيع نطاق الاتصالات بين استنبول ودمشق دون أدنى مشاورة مع السعودية.
وذلك مؤشر على فتور فى العلاقات لا يمكن إنكاره ومشروع صدام فى الظلام لا تعرف نتائجه.
بعد اللقاء المثير الذى جمع «أردوغان« فى «سان بطرسبورج« مع الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين« على خلفية شكوكه فى تورط أمريكى بالانقلاب العسكرى ضده جرت انقلابات دراماتيكية فى قواعد اللعبة الإقليمية وصلت قمتها فى استخدام مطارات إيرانية لعمليات عسكرية روسية فى سوريا وتفاهمات تركية إيرانية لم تكن متوقعة.
الهاجس الكردى هو محور اللقاء الإيرانى التركى، فالبلدان يخشيان بعمق من احتمال تأسيس دولة كردية تهدد بنيتهما الداخلية، فضلا عن أن «أردوغان« يبحث عن حلفاء أقوياء يضمن معهم مصالح بلاده.
المعنى أن شبه تمهيش مصر أفضى إلى شبه عزلة السعودية.
بالنظر إلى خطورة التحديات الوجودية أسوأ ما يمكن أن يحدث هو الصدام مع المشاعر العامة فى مصر.
كل شيء سوف يتقوض بعده ولا أحد بوسعه أن يعرف حجم ما تستقطبه بلورة الغضب من أزمات مستجدة تأخذ فى طريقها ما يبدو مستقرا.
بأوضح عبارة ممكنة السعودية فى حاجة ماسة إلى مصر بقدر ما مصر فى نفس الحاجة واللعب بنيران الجزيرتين عمل انتحارى بأى معنى تاريخى أو استراتيجى.