يأتى المساء على الأحياء الحية، تبدأ استعدادات العشاء لدى النساء، أما الرجال، فكما هو حال الرجال فى معظم دولنا، يتجهون نحو المقاهى المجاورة التى كانت تشكل منتدى واسعا للحوارات المتشعبة والتى تتقلص فى مراحل خوفا من «الحيطان التى لها آذان»، أو الآذان المتنقلة فقد اعتاد الشخص منا أن يكون هناك من يقف عند حافة الكلمة التى ينطقها ويسجل تفاصيل المحادثات خوفا من تلك المؤامرة الكبرى!
***
يتزاحم الأطفال والنساء وبعض الصبية عند المخابز الشعبية حيث الخبز الساخن من التنور حتى مائدة العشاء التى لا تعمر دونه وكثير من الباقلاء «الفول» المسلوق والحمص المعروف لدى أهل الخليج بـ «النخى» أو النخج.. وكوب من الشاى مع الحليب وبعض الجبن لدى الميسورين أما الأسر المحددوة الدخل، وهذا تعبير مستجد على المجتمعات الخليجية، فتكتفى بالخبز والشاى وتبعاتها دون الجبن.
***
عند مدخل الحى تجلس نفس الشلة تراقب الداخل والخارج وكأنها توكلت بحراسته من الغرباء رغم أنه لا غرباء بل هو فضول سكان الأحياء الصغيرة، حيث يسعى الجميع لتراكم الأخبار القادمة من البيوت المفتوحة بل المشرعة الأبواب.. رغم توافر الأجراس عند الأبواب فإن الجميع قد اعتاد أن يدخل الدهليز المؤدى إلى الحوش وأن يكرر اسم من يريد، فهكذا يعلن عن وصول الزوار أما النساء فقد اعتاد الجميع على دخولهن دون كثير من الإعلان عن الوصول.. كان بعض الرجال يكتفى بتكرار «درب».. «درب» بمعنى أفسحوا الطريق فهناك رجل قادم.
***
كثير من البساطة كانت تلك الحياة لا يعرف عنها الكثيرون من أجيال اليوم الذين لم يعرفوا سوى الماكدونالدز وموسيقى الراب، ولم يعيشوا مساءات الخليج الساكنة فى هدوء يبدو وكأنه تابع لطقس مقدس عند مساءات الخميس ليلة الجمعة، حيث تبث أغانى أم كلثوم.. لا يمكن لخليجى تلتقيه إلا ويحدثك عن أكثر مقطع أو كوبليه أعجبه فى «أنت الحب» أو سيدة خليجية تردد «مادام تحب بتنكر ليه».
يتفق الجالسون فى القهوة على أم كلثوم ويختلفون على عبدالحليم وفريد الأطرش وعبدالوهاب.. كل له رأى أن عبدالحليم عاطفى جدا ويبدو أقرب لذوق البنات أما عبدالوهاب فهو عبقرى فى الموسيقى والألحان.. وكثيرون يقولون لم يكن أحد يعزف العود كما فريد فى «آدى الربيع عاد من تانى».. هم خليجيون لا يعرفون الربيع إلا من الأغانى ولكنهم يدركون أنه فصل ذو طقوس محببة.
***
لم تكن هناك أجهزة تلفاز فى كل بيت بل لم تكن هناك سوى محطة يتيمة هى «تليفزيون أرامكو» التابع لشركة النفط فى السعودية والذى يبث كثيرا من أفلام رعاة البقر هكذا تعرف الخليجيون أو اقتحمت هوليوود لياليهم فى أحواش بعض البيوت الميسورة معظمها لتجار كبار، حيث يوضع التلفاز فى حوش البيت وتصف الكراسى أو يجلس الكثيرون على الأرض، هناك كثير من «المساند والدواشج» وهى المعروفة بالطراحة والمخدات الكبيرة.. وفى كل مساء مسابقة بين الحضور للتنبى بمن سينتصر فى نهاية الفيلم أما عند عرض الأفلام العربية القديمة فالمشروبات على المعجب بالممثل أو الممثلة.. كانت هى تعشق كمال الشناوى وتجد فيه ممثلا لا مثيل له فتحسم أمرها وتحضر «سحارة» أى صندوق من البيبسى كولا أو السينالكو لجميع الحضور.. طقوس تلاشت بل انقرضت حتى من الذاكرة المحكية لكثير من الخليجيين.. ربما لقلة الاهتمام، ربما للانبهار لما يتصور البعض أنه وصل إليه، ربما لانتشار محدثى النعم.. الربمات كثيرة ولكن الأهم أنهم لو عرفوا مذاق تلك المساءات الحالمة لأدركوا كم هم من الخاسرين فى أن يعيش المرء لحظة حقيقية بعيدا عن التزييف السريع الانتشار والمجاملات المبنية على المصالح والصفقات التى تصل حتى للزواج، فالمال يتزوج المال ويشترى بعضهم الاسم لأنه محدث نعمة فيربط ابنته الثرية، بما كسب والدها! بابن عائلة ذات اسم عريق.. كل شىء فى نقوشات أيامهم تستند وتبنى على أمر واحد وحدى ومن بعدى الطوفان، واللحظة هى سيدة الموقف، والمساءات تتلبد بدخان السيجار الكوبى الفاخر ورائحة العطورات التى أصبح سعرها أغلى من براميل نفطهم.
***
نعرف أن كل المجتمعات قد انتقلت للكثير من التغيير ولكن سرعة التغيير فى مجتمعات الخليج تبدو أكثر من أن يستوعبها العقل حتى عقلهم هم من يسيطرون على مساراتها فيكثر التخبط ويعم التشوه تفاصيل الحياة.. أين من أيامكم مساءات الخليج الحالمة.. أين؟
*كاتبة بحرينية