من الأسئلة التى تتكرر على ألسنة الناس اليوم: «هل أنت متفائل أم متشائم بمستقبل مصر؟». والإجابة التى أفضلها هى: «متفائل ولكن مع بعض التحفظات المهمة». نعم، لا شك عندى فى أن مصر ستحقق تقدما فى تحقيق أهداف ثورة 25 يناير: (عيش، حرية، عدالة اجتماعية، وكرامة إنسانية)، ولكن هذا لن يكون فى رأيى على النحو الذى يظنه غيرى من المتفائلين: لا فى الدرجة، ولا فى التوقيت، ولا فى المضمون. ولأبدأ بالحرية والديمقراطية.
لا شك أن خروج ملايين المصريين إلى الشوارع فى 25 يناير و30 يونيو، مطالبين بالحرية والديمقراطية، ونجاحهم فى المرتين فى إسقاط الرئيس، يعنى أن تطورا عميقا قد حدث فى نفسية المصريين، مما لابد أن يكون له أثر باقٍ فى المستقبل. هذا صحيح، ولكن يجب ألا ننسى أن مصر لا تعيش بمعزل عن العالم. والحرية والديمقراطية فى أى بلد فى العالم (حتى ولو كانت الصين) لم تعد الآن أمرا داخليا يتقرر نتيجة للصراع الطبقى أو السياسى داخل المجتمع، ولا نتيجة قوة الجيش بالمقارنة بقوة المجتمع المدنى. هناك فى العالم ككل، الآن، أكثر من أى وقت مضى، قوى تحدد مسار الحرية والديمقراطية فى أى بلد فى العالم، مما يصعب جدا، بل ويكاد يكون من المستحيل الفرار منه.
نعم، لقد نجح المصريون بعد سقوط حكم الإخوان، فى وضع دستور جديد (وصفه البعض بأنه أفضل دستور فى تاريخ المصريين، وقد يكون بالفعل كذلك)، ولكنى أعترف بأن فرحى بالانتهاء من وضع الدستور، وإقراره فى الاستفتاء بأغلبية ساحقة فى يناير 2014، كان أكبر من فرحى بالدستور نفسه، وذلك لسببين، الأول أن اللجنة التى وضعت الدستور اتسمت بقدر غير بسيط من عدم التجانس وتضارب الميول، ومن ثم كانت محاولة تمرير بعض المواد كثيرا ما تؤدى إلى الرضا بالحد الأدنى الذى يسمح بالحصول على موافقة الجميع أو الأغلبية، وهذا الحد الأدنى الذى يرضى الأغلبية ليس هو بالضروة أكثر المواقف عدلا. (كالنص مثلا على أن يكون تمثيل المرأة تمثيلا «مناسبا» بدلا من تحديد ما هو هذا التمثيل المناسب، وكالنص على أن يكون الحكم مدنيا بدلا من النص على أن مصر دولة مدنية.. إلخ) ولكن الأهم من ذلك أن «الدستور»، فى أى مكان فى العالم، أصبح أقل أهمية بكثير مما كان فى الماضى لأسباب تتعلق بأننا نعيش فى عصر يبتعد شيئا فشيئا عن الديمقراطية، بعكس الاعتقاد الشائع، ويفقد الإنسان فيه جزءا بعد آخر من حريته، بعكس الشائع أيضا. وأصارح القارئ بأن هذا الرأى من جانبى يؤدى بى أحيانا إلى النظر إلى ما كان يجرى من خلافات حول صياغة هذه المادة أو تلك من مواد الدستور وكأنه خلاف حول تسمية ابنك أو بنتك، هل تسميه «صادق» أو «شريف» أو تسميها «جميلة» أو «هيفاء»، دون أن تضمن بالمرة ما إذا كان الولد سيكون صادقا أو شريفا حقا فى مستقبل الأيام، وأن البنت ستصبح جميلة أو هيفاء.
إن الديمقراطية فى عالم اليوم، إن لم تفسدها سيطرة فرد أو حفنة صغيرة من الحكام، تفسدها سيطرة طبقة على حساب سائر الطبقات، أو غسيل المخ الذى تمارسه الشركات الكبرى فى المجتمع الاستهلاكى. هل تعجبنا الديمقراطية فى بريطانيا حيث خرج الشعب البريطانى كله ضد الاشتراك فى غزو العراق، ومع ذلك دخلت بريطانيا العراق، أو فى الولايات المتحدة، حيث يتنافس حزبان لا فارق مهما بينهما، وكان أهم خلاف بينهما فى انتخابات حديثة هو حول حق المرأة فى الإجهاض، وحول ما إذا كان يجوز أو لا يجوز الزواج المثلى. هناك شىء سيئ جدا يحدث للديمقراطية فى العالم كله ويدعو للقلق وإعادة التفكير، وهو ما يشعر الناس به دون أن يدركوا كنهه بالضبط، ولكنه يسبّب انخفاضا فى نسبة المشتركين فى الانتخابات عاما بعد عام، فى العالم ككل.
•••
ومع كل هذا فأنا لا أشارك المتشائمين بمستقبل الديمقراطية اعتقادهم (أو اعتقاد بعضهم) بأنه من الممكن أن يعود إلى مصر حكم شبيه بحكم حسنى مبارك، وكأن ثورة لم تقم فى مصر على الإطلاق. أن تصدر العودة إلى حكم مبارك أو أولاده هو فى نظرى أشبه بتصور عودة الميت إلى الحياة، وهو يذكرنى بتصوّر أسرة شاه إيران وبعض الإيرانيين، بعد قيام ثورة 1979، أن من الممكن أن يعود الشاه إلى حكم بلاده بعد أن أصدر الشعب الإيرانى على بكرة أبيه، حكمه عليه، وظهر بالإضافة إلى ذلك، تأييد قوى خارجية كبرى لعزل، بل وربما أيضا لعبها دورا مهما فى اتمام هذا العزل. ونحن نذكر كيف رفضت الولايات المتحدة أن يعيش فيها الشاه بعد عزله، رغم كل ما أداه لها من خدمات طوال حكمه.
كذلك فإنى لا أشارك المتخوفين من أن تأتى إلى مصر ما يسمونه «بحكم العسكر»، إذ يرون حكم العسكريين مرادفا للحكم الديكتاتورى. ليس لدىّ أى سبب لتفضيل الحكم العسكرى، ولكنى لا أجد أيضا أى سبب لاعتبار الحكم العسكرى أسوأ بالضرورة، من حيث الديكتاتورية والديمقراطية، من الحكم المدنى. إن التاريخ المصرى، وكذلك تاريخ العالم، مليئان بالأمثلة على ديكتاتوريين من العسكريين والمدنيين على السواء، وعلى حكام عسكريين اتسم حكمهم بدرجة من الديمقراطية أكبر مما اتسم به حكام مدنيون فى نفس الدولة (لينين وستالين فى روسيا كانا ديكتاتوريين غليظين ولم يكونا عسكريين، بينما كان أيزنهاور وديجول عسكريين ولكنهما مارسا حكما ديمقراطيا، بالمعنى المألوف فى الولايات المتحدة وفرنسا. ومحمد على وعبدالناصر كانا عسكريين، ولكن حكمهما كان فى نظر كثيرين (أنا من بينهم) أفضل بكثير من الحكم الذى جاء كل منهما بعده، بينما كان إسماعيل صدقى المدنى مائة بالمائة، ديكتاتورا حكم مصر بقسوة بالغة).
من الواضح إذن أن العامل الحاسم الذى يجعل من الحاكم ديكتاتورا أو حاكما ديمقراطيا، ضعيف الصلة بما إذا كان فى الأصل عسكريا أو لم يكن. أما الظاهرة التى سادت فى دول العالم الثالث فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، حيث شهدت انقلابا عسكريا بعد آخر فى دولة بعد أخرى من هذه الدول، جلب إلى الحكم حكاما ديكتاتوريين، فنحن نعرف الآن أنها كانت ظاهرة وثيقة الصلة بحلول الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى محل الدولتين الاستعماريتين القديمتين (بريطانيا وفرنسا)، إذ وجدت القوتان الاستعماريتان الجديدتان فى الضباط وسيلة ملائمة لممارسة سيطرتهما فى غياب أى ولاء لهم من جانب الأحزاب السياسية القديمة.
إن مخاوفى فيما يتعلق بغياب الديمقراطية لا تعود فى الحقيقة إلى الخوف من مجىء العسكر، بل إلى شىء أشد عمقا بكثير وأطول عمرا للأسف، وهو الذى أدى إلى ما وصفته منذ قليل من غياب الديمقراطية فى كل مكان. هذا الشىء المخفيف الذى يهدد الديمقراطية فى الحاضر والمستقبل، هو ما عبر عنه المؤرخ الأمريكى الفذّ (هوارد زن Howard Zinn)، عندما قال إن الذى يفسر الديمقراطية فى الماضى كان هو استخدام القوة (Force) أما الآن فالذى يفسدها هو الخديعة (deception). وأنا لا أجد صعوبة فى العثور على أمثلة لهذه الخديعة، فهناك مثلا حجب المعلومات الضرورية عن الناس، ونشر المعلومات الكاذبة، واستخدام الصوت والصورة للترويج لشخص دون آخر، والاعتماد على مجرد التكرار كوسيلة من وسائل الإقناع، والترويج لفضائح لأشخاص قد يكونون نبلاء فى الحقيقة، ولكنهم غير مرغوب فيهم، وشغل الناس بحمى الاستهلاك، فضلا على شغلهم بالمسلسلات التليفزيونية ومباريات كرة القدم.. إلى غير ذلك مما لا يسمح به الحيزّ المتاح لهذا المقال.