لو تدبر العسكرى قليلا فى أحداث الأحد الدامى أمام ماسبيرو فى أكتوبر، ربما احتوى ما جرى فى نوفمبر بميدان التحرير، حتى هذه اللحظة لم يستوعب الحكام الجدد أن ما أسقط مبارك لم تكن فقط التظاهرات والاعتراضات والاحتجاجات والاعتصامات فى الشوارع، لكن أسقطته دماء الشهداء، أججت الدماء التى سالت فى يناير الغضب ضده ومنحت ميدان التحرير تماسكا مذهلا، وحرمته موقعة الجمل الفرصة للنجاة بعد خطاب عاطفى كاد يحقق أغراضه.
مشاهد الدم والقتل والتنكيل لم تعد تغرس الخشية فى أعماق المصريين بقدر ما باتت تضرب فيهم صيحة الانتباه والفوقان، وفقأ العيون إن كان يجلب الظلمة لضحاياه فإنه يُبصر مجتمع بأسره كان غارق فى ظلمات الأساطير التى تقبل الاستقرار مع الذل، وترضى بنور البصر مع كسر العين، وبحياة الجسد مع موت الحياة.
لم يدرك العسكر حتى هذه اللحظة أن كل شىء فى هذا العالم يمكن أن يخضع للخلاف والنقاش، والاتفاق والرفض والأخذ والرد والتفاوض، إلا الدم، لا يليق أن يكون محل اختلاف، ولا يمكن فى لحظة من اللحظات أن ترى الدم يسيل دون أن تتخذ خيارا أخلاقيا وحيدا بأن تقف فى فسطاط الدم السائل، وما دون ذلك من تبريرات مهلهلة هى تفاصيل لا تهم أمام مشاهد الدم، ومناظر الشواء فى فرن غاز كبير باتساع ميدان التحرير، يخنق فى صدور مصريين الأنفاس فيما هم يحاولون إصلاح رئة الوطن.
يعتقد العسكر أنهم أفلتوا من مجزرة ماسبيرو، فقط لأنها لم تتحول إلى اعتصام تالٍ، ولم يتحرك بعدها ميدان التحرير، بهذا الزخم ولم يتعرضوا لذات الضغط الشعبى الذى أجبرهم على الاعتذار عن أحداث التحرير، ربما نجح خطابهم الإعلامى فى تحويل المسألة إلى قضية طائفية تخص «أقباط»، لذلك لم يعتذروا حتى هذه اللحظة عن القتل الذى أعملوه فى ماسبيرو محتجين بذات الأسباب التى كانوا يكابرون بها قبل اعتذارهم عن أحداث التحرير، مثل أن الشرطة العسكرية كانت تدافع عن نفسها، وكل هذه المسوغات التى روجت لمجتمع غارق فى الاحتقان والتمييز حتى يهدأ بالا ولا ينزعج فالشهداء أقباط!
واليوم يعودون لذات الممارسات فيجدون شبابا غاضبا استوعب ما جرى أمام ماسبيرو، واستبعد القوى السياسية التى كانت تشيع فيهم الانقسام سياسيا وطائفيا، وأدرك أنه قُتل يوم أن صمت عن وجع أخيه أمام ماسبيرو.
كان على العسكر إدراك أن وضع «إزهاق الدماء» كخيار فى أى مواجهة مهما كانت التحديات من ورائها، هو عمل لا يجوز أخلاقيا الدفاع عنه، وأنهم مؤتمنون على هذا الدم، وإراقته بأيديهم أو بأيدى غيرهم هى مسئولية من يحكم، وأن تحول كل مظاهرة أو اعتصام إلى مجزرة لا يعبر سوى عن رعونة فى أدائهم.. وتكرار هذا الأمر يعنى أن فى أعلى السلطة هناك أناس لا يتدبرون!