منذ وقت ليس بالقصير وأنا أصحو كل يوم، منتظرة أن يجذبنى أحد من ذراعى، مشيرا بيده إلى كاميرا خفية وراء حائط سميك، وهو يضحك مقهقها ملقيا بسؤال رمضان الشهير تحبى نذيع؟ حنذيع. وقبل أن أفكر للحظة، ما إذا كانت ثورة يناير المحفورة أيامها فى مخيلتى قد وقعت أحداثها بالفعل، أم كانت مجرد مغامرة من مغامرات الكاميرا السخيفة إياها. التى تجعلك تضحك على نفسك، ويضحك عليك كل من يشاهدك. وقبل أن تمضى لحظة التفكير أستفيق على مشهد من المشاهد التليفزيونية التى تطارد أعيننا لأم أو لأب شهيد يحضن صورته، ويستحلفنا ألا ننساه. وعندها فقط أتيقن أن الثورة لم تكن لقطة من صنع الكاميرا الخفية، لأن الشاهد عليها هو الدم.
ولكن أليست الثورة هى التى تأتى بالحق لأصحابها، لهؤلاء الذين صنعوها، ودفعوا ثمنها. وانتظروا أن تأتى لهم بشتاء أدفأ فيه عدل أفضل، وحق أكثر، وبراح أوسع بعد أن ضاقت دنياهم عن أحلامهم. أى ثورة عادلة تلك التى يتسع فيها الخطاب الحكومى، دعما للخطاب الدينى، ومروجا له الإعلامى لتدشين أفكار من عينة تبرع الموظفين، والعمال، والصيادين الغلابة للدولة حتى نشد من أزرها فى تمثيلية الخناقة المفتعلة مع أمريكا. أليست هى ذاتها أمريكا التى يأتى كل يوم مسئولون منها يجلسون مع مسئولين منا، ورجال أعمال منها يأكلون عيشا وملحا فى أفخم الفنادق مع رجال أعمال منا من أجل تقسيم البيزنس. هل هى ثورة حقا التى يتبرع فيها صياد غلبان بخمسة قروش عن كل كيلو سمك يطفح الدم فى صيده، من أجل أن تستمر الدولة فى تقديم الطاقة المدعمة لرجال الأعمال؟ ولتقديم المليارات لدعم المصدرين المصريين الذين هم طرف فى اتفاقية الكويز مع الجانب الإسرائيلى. وهؤلاء الذين، يدفع الصياد والعامل تبرعا من قوت عيالهما لدعم صادراتهم، يأتون بجانب من هذه الصادرات من دولة إسرائيل، لاستكمال شرط التصدير بإعفاء جمركى للولايات المتحدة الأمريكية التى هى طرف فى الخناقة المزعومة.
وهل من قبيل الثورة أن يدفع الموظفون فى شركة من شركات رجال الأعمال تبرعا من رواتبهم ليتقدم بها رجل الأعمال الشهير فى مشهد درامى ويضعها تحت تصرف وزير المالية. فى الوقت الذى يقوم فيه نفس الوزير بتقديم عرضا سخيا لرجال الأعمال بخصم ربع المتأخرات الضريبية المستحقة للدولة، فى حال تفضلهم بالسداد قبل مارس؟. وهل تعتبروننا نعيش ثورة عندما يترك وزير المالية شركات المحمول تفرض على كل مواطن يحمل تليفونا محمولا أن يدفع جبرا ضريبة التمغة التى تفرضها الوزارة على الشركات، لمجرد أن الشركات قررت مجتمعة أنها ستحملها للمواطنين. بدلا من أن تتحملها هى. ووقف الوزير صامتا دون أن يفرض على الشركات الالتزام بدفع الضريبة. وكأن كل دور الحكومة هو جباية الأموال دون أن أن تحقق من وراء الضريبة مطلب العدالة الاجتماعية.
ومرة أخرى هل يمكن أن نعتبر أنه من قبيل الفعل الثورى أن يتم خصم راتب يوم من عمال إحدى شركات القطاع العام بمبادراة من إحدى القيادات النقابية فى اتحاد العمال التى يريد صاحبها أن يحافظ على علاقة الود مع الحكومة. فى الوقت الذى مازال فيه عمال الغزل والنسيج ينتظرون نتائج المباحثات المكوكية داخل أروقة الحكومة، لتدبير أجورهم التى تعجز الشركات عن توفيرها. وربما تضطر الشركة القابضة أن تستدين من البنوك مرة أخرى من أجل سداد المرتبات للعمال. هل من العدل أن يتبرع العمال الذين ظلوا قبل الثورة يناضلون لحد أدنى للأجور، فلم يتمخض نضالهم بعد الثورة إلا عن 700 جنيه. بينما الأرقام الرسمية لجهاز الإحصاء تقول إن الأسرة التى تضم 5 أفراد ويحصل عائلها على 1280 جنيها فى الشهر هى أسرة فقيرة. إذن فحكومة الثورة قررت أن تمنح المصريين صكوكا للفقر مع مرتبة الشرف.
وهل يمكن أن نعتبرها ثورة تلك التى لا يستطيع مسئولوها أن يسترجعوا ما يقرب من مليار جنيه كان محمود محيى الدين وزير الاستثمار السابق قد طلب من رؤساء شركات القطاع العام القابضة فى عام 2008/2009 أن يتبرعوا بها لمؤسسة أهلية هى (المصرى لتنمية المجتمع)؟. وبالمناسبة هذه المؤسسة كان من أهم أعمالها التبرع لمستشفى سرطان الأطفال، والتى كانت التبرعات لها بمثابة القرابين التى تقدم تحت أقدام السيدة الأولى المخلوعة سوزان مبارك، إلى جانب الصرف على بعض المنح الدراسية لبعض المحظوظين، وإعادة طباعة موسوعة مساجد مصر من عصر الخلفاء الراشدين..
وهل هى ثورة حقا تلك التى لا يستطيع المسئولون فيها، بما فيهم رئيس الوزراء الحالى بعد مرور عام عليها أن يسترجعوا الأموال المسلوبة من شركات القطاع العام. سواء كان السلب قد تم عن طريق الإجبار، أو الخضوع لولى الأمر، أو الخوف من غضبه، أو حتى تزلفا ونفاقا له؟. أيحتاج أمر استرجاع أموال شركات القطاع العام المسلوبة منها، فى ذات الوقت الذى كانت فيه نفس الشركات تجبر على التنازل عن أراضيها فى أحسن المواقع فى مصر للبنوك مقابل سداد مديونياتها التى وصلت إلى 40 مليار جنيه. أيحتاج هذا الأمر أكثر من قرار ثورى، ليس فقط باسترجاع هذه الأموال، ولكن بتحويل كل من وافق على منح هذه الأموال العامة للنيابة للتحقيق معه؟. إذا لم يكن بتهمه إهدار المال العام، فبتهمة نفاق الوزير على حساب حقوق العمال.
والغريب فى أمر تلك الثورة الخفية التى نعيشها أن هناك بلاغا مقدما من رابطة «رقابيون ضد الفساد» من أعضاء جهاز المحاسبات للنائب العام منذ شهور حول هذه الأموال التى حصلت عليها هذه المؤسسة الخيرية، التى لم يأت أى خير من ورائها، وإلى الآن لم يتم فتح هذا الملف. وكل ما حدث أن رئيس الشركة القابضة للكيماويات، والذى أصبح مسئولا عن ملف القطاع العام أرسل مكاتبات لرئيس الوزراء يطالبه باسترداد جانب من هذه الأموال، لسداد مرتبات عمال الغزل والنسيج بدلا من الاستدانة من البنوك. وما كان من رئيس الوزراء إلا أن أرسل إلى وزارة التأمينات الاجتماعية يستسمحهم فى السؤال عما إذا كان استرداد هذه التبرعات المسلوبة قانونيا أم من قبيل تجاوز حدود اللياقة الحكومية.
هل تصدقون فعلا أن هناك ثورة؟ يبدو أن العلاج الوحيد لكى أصدق أنها لم تكن ثورة خفية مثلها مثل الكاميرا المخفاة وراء الحائط، لابد لى أن أمر صباح كل يوم فى تلك الشوارع التى مازال دم الشهدا فيها على الأسفلت ليظل اللون الأحمر ملتصقا بعينى، ويجعلنى أصدق أن مارأيته كان ثوررررررة بجد.