نشرة الأخبار.. - نجلاء العمري - بوابة الشروق
الإثنين 30 سبتمبر 2024 12:31 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نشرة الأخبار..

نشر فى : الأربعاء 26 أكتوبر 2011 - 10:10 ص | آخر تحديث : الأربعاء 26 أكتوبر 2011 - 10:10 ص

«هى كنيسة ولا بيت؟». كان هذا هو السؤال الذى استقبل به الجميع أحد الزملاء عند عودته من مهمته الصحفية فى «الماريناب». السؤال كان مفاجئا لزميلنا كما كان مفاجأة كبيرة لى. ببساطة لأنه يأتى بعد أكثر من أسبوعين على أحداث ماسبيرو. أسبوعان أو أكثر سمع فيهما الناس كل شىء عن الماريناب والمبنى وانهالت التحليلات والتعليقات على كل قنوات التليفزيون، ورغم ذلك غابت أبسط معلومة (طبيعة المبنى) وغابت أبسط الصور، وأهمها  على الإطلاق (صورة المبنى بعد هدم أسواره).. كان السؤال يعكس بوضوح الخلل فى المنظومة الإعلامية ــ التليفزبون الخاص والحكومى على حد سواء ــ الذى تراجعت فيه قيمة «المعلومة ــ الخبر» وتاهت. 

 

 

منظومة إعلامية معكوسة

 

المعتاد عند الأحداث الجسيمة أن يلتف الناس حول شاشات التليفزيون يبحثون أولا عن الخبر «ماذا حدث». ونشرات الأخبار على التليفزيونات الوطنية هى بصفة عامة أهم موعد تليفزيونى يومى، هى بمثابة موعد «للأمة» تتابع من خلاله ما يحدث لديها وما يحدث فى العالم. وتتم جدولة موعد النشرة المسائية الأساسية وفقا لعادات المجتمع لضمان أن يلتف حولها الجميع.

 

فى فرنسا، نشرة الثامنة مساء على القناة الأولى هى «الموعد المقدس» للعائلة الفرنسية تشاهدها، وهى على مائدة العشاء. وبريطانيا كلها تتابع نشرة أخبار بى.بى.سى فى العاشرة مساء مع بداية السهرة (أو نهايتها). وفى الأحداث الجسيمة تجند «النشرة» لإعطاء المعلومة ــ الخبر وابعاده قبل أن تبدأ برامج التعليق. هكذا يقول منطق الأشياء.

 

لكن هذا المنطق يبدو معكوسا فى المنظومة الإعلامية (التليفزيونية) فى مصر. فنشرة الأخبار ليست الأكثر مشاهدة ولا الأكثر تأثيرا، ولا هى البرنامج الذى ينتظره الناس. ومن يشاهدها فهو يتابعها من منطلق «ما تقوله الحكومة ــ الحاكم». وتراجع الخبر وقيمته وانعكس ذلك على رداءة الأداء فى نشرة أخبار «ماسبيرو» (وفى نشرات الأخبار الأخرى). وامتد إلى أجيال من الصحفيين لم تتعود التدقيق فى الخبر ولا تدرك الفارق بينه وبين الرأى. وأذكر ما انتابنى من رعب عندما سألت صحفية شابة تعمل فى مؤسسة «كبيرة» كيف ستكتب تقريرها الإخبارى إن قال لها مصدر ما معلومة معينة، وقال لها مصدر آخر معلومة مخالفة، فأجابت بمنتهى الثقة: أضع المعلومتين معا وعلى المتلقى أن يختار. ولم تفكر للحظة أن تقوم بواجبها المهنى بمحاولة التحقق من أى المعلومتين صحيح. ولا هى أدركت رغم سنوات عملها، الفارق بين «الرأى والرأى الآخر» و«قدسية الخبر».

 

 

القيمة المتضخمة لـ «التوك شو»

 

فى ظل غياب «الخبر» جاءت برامج «التوك شو» لتملأ هذا الفراغ وتنفرد بالساحة الإعلامية. والحديث هنا عن «توك شو» أى «استعراض كلامى» لو التزمنا الترجمة الحرفية، وهو قالب للبرامج الترفيهية بالأساس يختلف عن برامج «الأحداث الجارية» المتعارف عليها للتحليل والمتابعة الإخبارية. وبات التوك شو فى مصر ظاهرة فريدة وغريبة لا مثيل لها.

 

وبالطبع لايمكن على الإطلاق إنكار الدور الذى قام به، ولا يزال بعض هذه البرامج. ولا يمكن الإقلال من حرفية بعض مقدميها، وهم إعلاميون متميزون. لكن أيضا لابد من الالتفات إلى «خطر تضخم» هذه البرامج واجتياحها للمنظومة الإعلامية.

 

الخطر الأول، متمثل فى طابعها «الكلامى»، فالخبر أو المعلومة تضيع فى زحام الكلام الممتد لساعات بصورة مترهلة. وإن أتت المعلومة جاءت مختلطة برأى المتكلم. فسيولة الكلام تجعل ضبط وتدقيق ما يقال مهمة صعبة (وليس أدل على ذلك من الحلقة التى استضافت المجلس العسكرى ووجد كثيرون صعوبة  شديدة فى متابعتها).

 

أما الخطر الثانى وهو الأهم، فهو أن برامج التوك شو فى مصر تقوم على شخصية مقدميها ولا أقول «مذيعيها». فإذا كانت مهمة المذيع أن يطرح الأسئلة فإن مقدم التوك شو هو مشارك فى الإجابة عنها، لا يتردد فى إبداء الرأى والنصح (باستثناءات نادرة). ومن ثم كان من الطبيعى أن يتحول كتاب الأعمدة الصحفية إلى مقدمى «توك شو» والعكس. وتطور الأمر ليدخل السياسيون على الخط وأصبحوا هم أيضا من مقدمى التوك شو حتى وإن ظلوا فى الوقت ذاته ضيوفا على البرامج الأخرى. وبعضهم مرشح فى الانتخابات ولا أدرى أين ستكون الحدود الفاصلة بين الخبر والرأى والدعاية الانتخابية فى هذه الحالة.

 

ومع ضيق دائرة ضيوف التوك شو وتكرارهم من برنامج لآخر، أصبح التميز منحصرا أو يكاد فى شخصية المقدم، وفى مهاراته فى لعب دور «صانع الرأى» وأيضا «صانع الخبر»، وهذا هو المنزلق الحقيقى لأنه يفتح الباب لتجاوزات يدفع ثمنها المشاهد وهو يحاول أن يفهم وأن يعرف فلا يحصل إلا على «خبر» وضع من البداية فى إطار محدد ولم يعد بالتالى «خبرا».

 

 

الإصلاح الحقيقى

 

هذا التضخم «الكلامى» عرفته المجتمعات التى شهدت تحولات جذرية كالثورات أو الأزمات السياسية العنيفة. وهو أمر مفهوم أن يشعر الناس بهذه الحاجة الملحة للتعبير بعد سنوات طويلة من الكبت. لكن التجارب تشير أيضا إلى تراجع هذه الظاهرة سريعا (وأتصور أننا بالفعل بدأنا نشهد بداية تراجع ظاهرة التوك شو فى مصر) لتظهر بعدها الحاجة الحقيقية للمعرفة وللخبر.

 

و«الماريناب» هى الدرس الذى يجب أن نعيه ونحن نتحدث عن إصلاح المنظومة الإعلامية وإصلاح التليفزيون. «فنشرة الأخبار» هى البداية الحقيقية لأى عملية إصلاح وليست المنافسة على برامج التوك شو ولا على نجومها. لكنها نشرة حقيقية ــ بالتأكيد ليست كتلك التى واكبت أحداث ماسبيرو ــ نشرة تحترم المعلومة والخبر، ولا تعيد إنتاج «قيم التوك شو»، تنعكس فيها اهتمامات المصريين وتساؤلاتهم، وتختفى منها صور اللقاءات والاجتماعات بتعليقاتها الهزيلة، ويبذل فيها مجهودا حقيقيا للحصول على الخبر والتحقق منه. نشرة يلتف حولها المصريون لأنها مصدر للخبر المتكامل والموثوق فيه. وربما آن الأوان لفك الارتباط مع تراث ماسبيرو، ليس فقط مع منظومة العمل به بكل تعقيداتها التى يكاد يستحيل تفكيكها، والتى تقف عائقا أمام كل الطاقات الكامنة بداخله ولكن أيضا مع المبنى ذاته الذى أصبح شديد القبح فى الداخل والخارج، وإنشاء خدمة إخبارية مختلفة فى مكان آخر تقوم على أسس مهنية سليمة. وبالطبع لابد من إرادة سياسية «حقيقية» تحترم حق المواطن فى المعرفة وحق الإعلامى فى الحصول على المعلومة. وإلا تحول الأمر إلى «ماسبيرو» جديد وعاد سؤال «الماريناب» يطل علينا عند كل أزمة ينخرط  الجميع فى تحليلها واتخاذ المواقف منها ليتساءلوا بعدها «هى كنيسة ولا بيت؟».

نجلاء العمري إعلامية مصرية
التعليقات