أحد قيادات الإخوان ممن لم تتغير مواقفهم مع الوصول للسلطة قال إنه يخشى دولنة الإخوان أكثر مما يخشى أخونة الدولة، وهو كلام يعبر بدقة عن أزمة الإخوان، والحركات الإسلامية بشكل أعم، مع السلطة التى وصلت إليها تباعا فى العقد المنصرم.
شكلت الحركات الإسلامية منذ نشأتها وتسيسها بديلا للأنظمة الحاكمة، يحمل مشروعا مغايرا لمشروعاتها، وهذا «المشروع السياسى الإسلامى» مثل ــ لدى من أيدوه ــ حلما بالوحدة التى تعيد لمَّ شتات الأمة، والاستقلال الذى يحرر أراضيها ويقطع تبعيتها الحضارية والمعرفية لغيرها، والنهضة التى تنتزعها من الفقر وتعيد إليها مواردها مستغلة إياها على نحو عادل يؤدى للرخاء العام.
وقد حافظت الحركات الإسلامية خلال العقود الماضية على تماسكها التنظيمى مستعينة بوسائل منها البعد عن التفصيل فيما يتعلق بالمشروع، بحيث يسهل تجنب الخلافات الناتجة عن التصورات المختلفة لمفهوم الشريعة، وللبنية الرئيسة للأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذى أدى ــ فى حالة الإخوان ــ لوجود اختلافات عميقة بين الأعضاء من حيث التصورات الشرعية (تأخذ الجماعة الحالية من أربعة مشارب فكرية متضاربة هى المدرسة التراثية الأزهرية، والمدرسة السلفية، والمدرسة القطبية، ومدرسة الحداثة الإسلامية)، والسياسية (الخلافات على المسئولية الدينية والاجتماعية للدولة، وحجم وطبيعة مسئوليتها الاقتصادية، وتوجهات السياسة الخارجية، وغير ذلك)، مما يعنى أن الحفاظ على وحدة التنظيم جاء على حساب الوضوح الفكرى ونضج المشروع السياسى.
ولم تكن الحركات الإسلامية استثناء فى عدم اكتمال مشروعها السياسى، فشأنها فى ذلك شأن جل الكيانات السياسية القائمة، غير أن القوة التنظيمية والعددية للإسلاميين أوصلتهم دون غيرهم للحكم فى أعقاب الثورات العربية، فصارت مشروعاتهم للتغيير محل اختبار.
●●●
وصل الإخوان للحكم فى مصر، من خلال الأكثرية البرلمانية، ثم الرئاسة، ليواجهوا بتحد مختلف عما اعتادوه من تحديات القمع، وهو تحدى الحكم، المقترن بضغوط أصحاب المصالح فى بقاء الوضع الحالى، سواء فى الداخل كشبكات المصالح فى أجهزة الدولة ورجال الأعمال خارجها، أو الخارج فى الأحلاف الإقليمية التى دارت مصر فى فلكها فى العقود الأخيرة، وأهمها محور «الاعتدال» الذى يجمع واشنطن بالرياض وتل أبيب والقاهرة.
وهذه التحديات يواجهها الإخوان ــ بسبب وجودهم فى الحكم ــ قبل اكتمال نضج مشروعهم السياسى، أى أنهم يواجهونها فى ظل غياب لرؤية تنظم الموقف حيالها، فتكون مواقف القيادة السياسية صادرة عن خانة رد الفعل، ويتحول معيار النجاح ليكون «الصمود» فى مواجهة التحديات، أى البقاء فى الحكم، كما حدث من قبل مع التنظيم، الذى تحول بقاؤه لهدف فى ذاته، وإن كان السبب فى حالة التنظيم خارجا عنه (وهو القمع)، بينما السبب فى حالة الحكم يأتى من داخل التنظيم، وهو غياب الرؤية، إذ لا يمكن التذرع بالتحديات الآتية من الخارج كونها مما يواجهه بالضرورة كل من يحكم.
وفى ظل غياب الرؤية وضغوط الواقع تخرج من القيادة السياسية مواقف تناقض أصول «المشروع» الذى تدعو إليه الحركة الإسلامية، فالسعى لقرض صندوق النقد، والتصريح بعدم وجود «أى نية» لمراجعة اتفاقية الكويز يتناقض مع مسعى الاستقلال الاقتصادى، والخطاب الودود الموجه من الرئيس لنظيره الإسرائيلى، والتبرير «السخيف» له من الرئاسة، المصحوب باستمرار فرض الحصار على غزة، وهدم الأنفاق (الملاذ الأخير لأهل القطاع)، فضلا عن التأكيد المستمر على الالتزام باتفاقية السلام، يضرب فى مقتل كل كلام عن استقلال الأرض ووحدة الأمة فلا يبقى له معنى، واستمرار سياسات مبارك الاقتصادية النيوليبرالية (التى دافع عنها بعض القريبين من الرئاسة قائلين أن المشكلة إنما كانت فى الفساد المحيط بها) تبقى الثروة مركزة فى أيدى القلة على نحو يزيد من رقعة الفقر (الذى تقتصر محاولات علاجه وقتئذ على التدخل الخيرى والأهلى عن طريق أعمال المن والخير، من غير تدخل لإصلاح هياكل الاقتصاد)، وتوارى كل كلام عن الشريعة، بل عدم تقديم أى تصور لماهيتها والمقصود بتطبيقها، مع استمرار هيمنة الثقافة النيوليبرالية على جنبات الحياة (الاستهلاكية، العالم ــ السوق، الإنسان ــ المنتج ــ المستهلك) ينزع عن كل كلام عن الاستقلال الحضارى والمعرفى معناه.
وصول الإسلاميين للحكم فى هذا السياق ليس تمكينا للإسلام على النحو الذى تشير إليه أدبيات الإسلاميين ويتطلع إليه أفرادهم، بل هو محض تمكين لتنظيمات سياسية وصلت للحكم وتسعى للحفاظ عليه بإرضاء من تراهم الأطراف الأقوى فى المعادلة السياسية، فالسياسات المتبعة تشير لأن القيادات ترى ضرورة التفاهم مع شبكات المصالح والفساد فى داخل أجهزة الدولة ورجال الأعمال المرتبطين بها، وتحافظ ــ بهم ومعهم ــ على استقرار بنية النظام السياسى والاقتصادى (بدرجات أدنى من الفساد) وتخشى فى السياسة الخارجية الاصطدام بمصالح أى من القوى الكبيرة فى محور الاعتدال، بحيث يصير سقف الطموح هو العودة لسياسة مصر الخارجية فى التسعينيات، التى تحافظ على هامش محدود من الاستقلال فى ظل هيمنة نظام كامب ديفيد والقبول التام به.
وهذا الكلام معناه ــ فى التحليل الأخير ــ أن الحكام قد تخلوا عن مشروع «التغيير» الذى قامت عليه حركاتهم ووعدت به الجماهير، تذرعا بضرورات الحكم، وهو ما يعنى فى حالة استمراره ــ على المدى المتوسط والبعيد ــ السقوط التام لهذه الحركات والمشروع الذى تبشر به.
إن واجب الإخوان، لو أرادوا الحفاظ على «مشروعهم»، هو التمسك به ولو على حساب الحكم، والوقوف فى وجه التنازلات التى تقدمها القيادة السياسية الحالية بنفس القدر الذى كانوا سيقفون به أمامها لو كانت من خارجهم، والسعى الجاد ــ بالتوازى مع ذلك ــ لإنضاج مشروعهم، مستفيدين من أهل الاختصاص فى العلوم المختلفة، ومعترفين للناس صراحة بالخطأ الذى وقعوا فيه بادعائهم وجود مشروع متكامل للنهضة.
ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.