ظهر أمس، اتصل بى طبيب مصرى مقيم فى مدينة برمنجهام ببريطانيا ليسألنى عن حرب الشوارع فى مصر، بعدما أبلغه زميل له أنه قرأ عبر الإنترنت عنوانا بهذا المعنى لإحدى صحف الصباح الصادرة فى القاهرة. وفى وقت مبكر نسبيا من الصباح ــ الساعة السابعة بالضبط ــ تلقيت اتصالا من قارئ سعودى لا أعرف اسمه قال فيه إنهم قلقون مما يجرى فى مصر، الذى هو بالنسبة إليهم فى المملكة ليس شأنا محليا ولكن الهزات التى تحدث فى البلد تحدث صداها فى جميع أنحاء العالم العربى.
كنت قادما لتوى من الدار البيضاء بالمغرب، وتصادف أن عقد هناك مؤتمر لاتحاد المهندسين العرب وكان أعضاؤه فى نفس الفندق الذى أقمت به. الأمر الذى جعل التطورات الحاصلة فى مصر موضوعا للمناقشة فى المصعد والمطعم وفى كل ركن اجتمع فيه ثلاثة منهم. وتصادف أن التقيت فى قاعة الضيافة بالمطار بشيخ موريتانى ومهندس إماراتى متزوج من مغربية، وإذا بهم يلاحقوننى بالأسئلة التى انصبت على الحاصل فى مصر وتداعياته. فى مطار القاهرة حدث نفس الشىء حيث أحاط بى ثلاثة من رجال الجمرك وألقوا علىّ ذات الأسئلة المسكونة بالقلق والتوجس.
هذه الملاحقات لم يكن لها علاقة بهوية الشخص أو بمدى تواضع شأنه، لكن علاقتها كانت أوثق بأهمية الحدث الذى هز مصر وحول تفاصيله إلى عناوين رئيسية فى مختلف وسائل الإعلام، بدا أكثرها مثيرا وباعثا على الخوف والقلق.
قلت لمن سألونى إننى كنت متغيبا عن مصر حين صدر الإعلان الدستورى يوم الأربعاء الماضى 21/11. لذلك فإن معلوماتى لا تتجاوز المتابعات التى وقعت عليها من خلال الفضائيات المصرية والعربية. وهو ما يعنى أن خلفيات الإعلان لا علم لى بها، لذلك فإن ملاحظاتى من الخارج يمكن حصر أهمها فيما يلى:
•إن أمثال تلك الاضطرابات والقلاقل واردة فى فترات الانتقال خصوصا تلك التى تعقب التحولات التاريخية المهمة، وتاريخ الثورات فى العالم يشهد بذلك. وإذا كان ذلك قد حدث فى أعقاب الثورات الانجليزية والفرنسية والروسية والصينية وغيرها من الثورات التى سالت فيها دماء غزيرة، فلا يستغرب أن تحدث فى أعقاب الثورة المصرية السلمية.
•إننى لم أفهم الضرورة التى ألجأت الرئيس إلى إصدار الإعلان الدستورى. ولست أشك فى أن هناك أسبابا استدعت اتخاذ هذه الخطوة، لكن الرأى العام فى مصر وخارجها لم يحط بها علما، الأمر الذى فتح الباب واسعا للبلبلة وإثارة المخاوف. وربما صار الموقف أفضل بكثير لو أن الرئيس أو من يتحدث باسمه عرض للناس خلفية الإعلان وحاول إقناعهم بعناصر الضرورة التى استدعت إصداره.
•إن خطبة الرئيس مرسى بعد صلاة الجمعة التى تحدث فيها عن مبررات إصدار الإعلان الدستورى لم تكن مقنعة، ثم إنه وجه خطابه آنذاك إلى مؤيديه المقتنعين بكلامه حتى قبل أن يصدر عنه، فى حين أنه كان ينبغى أن يخاطب المعترضين قبل المؤيدين. وكان تليفزيون الدولة الأولى بذلك.
•إن الرئيس حين أصدر الإعلان الدستورى فإنه مارس حقه باعتباره حائزا على سلطة التشريع. وقد مارس المجلس العسكرى ذلك الحق من قبل. الذى انتقل إلى مجلس الشعب بعد انتخابه. لكن حل مجلس الشعب بقرار من المحكمة الدستورية أحدث فراغا فى سلطة التشريع المستقلة، وأعاد تلك السلطة إلى رئيس الدولة المنتخب.
•إن الغموض فى الإعلان الدستورى فى المادة الثانية الخاصة بصلاحيات الرئيس، وفى المادة السادسة المتعلقة بحق الرئيس فى اتخاذ الإجراءات التى تهدد حياة الأمة أو الوحدة الوطنية أو يعطل مؤسسات الدولة. هذا الغموض فتح الباب واسعا للتأويل الذى أخاف قطاعات عريضة من المواطنين، ولذلك فإن طمأنة المواطنين من خلال ضبط مثل هذه الصياغات تظل مطلبا أساسيا لا غنى عنه. علما بأن ذلك الغموض الذى يعد أمرا سلبيا فى الإعلان غطى على إيجابيات فيه كانت بمثابة استجابة لمطالب الثوار من البداية.
•إن الكلام عن ظهور فرعون جديد فى مصر ينبغى ألا يؤخذ على محمل الجد، لسبب جوهرى هو أن عصر الفراعين انتهى فى مصر بسقوط مبارك وإخراج العسكر من السلطة، والإصرار على الاحتكام إلى صناديق الانتخاب باعتبار أن الشعب مصدر السلطات. وهذا ليس افتراضا نظريا لأن ما يحدث فى الساحة المصرية الآن يقطع الطريق على أى محاولة لتأليه السلطان أو فرعنته، يشهد بذلك ما نقرؤه فى خطاب السياسيين وفى كتابات المعلقين بل وفى كلام مقدمى البرامج التليفزيونية، ذلك أننا لم نشهد فى مصر جرأة على الحاكم مماثلة لتلك التى نطالعها فى مصر الآن. والذين يندبون حظ مصر الآن منددين بالفرعون الجديد، يمارسون بحقه أقسى درجات النقد والتقريع، حتى أصبحت أخشى أن يحتج الفراعين على ابتذال وظيفتهم وإهانتها بفعل الممارسات المصرية. من ثم فإننى أزعم أن رئيس الدولة ــ أيا كان ــ ما عاد ممكنا له أن يصبح فرعونا فى مصر، حتى إذا أراد ذلك.
هذا الكلام قلته وأنا بعيد عن البلد، إلا أن ما حصلته بعد العودة له كلام آخر أعرضه غدا بإذن الله.