تأملات فى مسألة نوارة نجم - جلال أمين - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 3:58 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تأملات فى مسألة نوارة نجم

نشر فى : الجمعة 27 يناير 2012 - 9:05 ص | آخر تحديث : الجمعة 27 يناير 2012 - 9:05 ص

من القصص المشهورة التى رُويت لنا منذ كنا أطفالا، قصة تحمل عنوان «ملابس الإمبراطور الجديدة»، لكاتب وشاعر دانماركى كبير، وهى عن إمبراطور مغرور بنفسه، ومتيم لدرجة مدهشة بالملابس الجميلة، وبالظهور والتباهى بها أمام الناس، حتى ليكاد يغير الحلة التى يرتديها كل ساعة، فأراد رجلان محتالان أن يحققا بعض المكسب من غروره وخيلائه، فأبلغاه بأن لديهما القدرة على صنع حلة جديدة له، مصنوعة من خيوط رفيعة جدا من الذهب، حتى لا يكاد يراها أحد، وتخلب اللب بألوانها الزاهية، وإن كان الأغبياء يعجزون عن رؤيتها. أمرهما الإمبراطور، بصنع الحلة له، وبعد أيام ذهب المحتالان إلى رئيس الوزراء ليعرضا عليه الملابس الجديدة، ومدا أيديهما الخالية وكأنهما يحملانها إليه، فلم ير رئيس الوزراء شيئا، لأنه لم يكن هناك فى الحقيقة شىء يمكن رؤيته، ولكنه خشى من الاعتراف بأنه لا يرى شيئا فتلصق به تهمة الغباء، فتظاهر بأنه يراها وأبدى إعجابه بألوانها، وذهب إلى الإمبراطور ليخبره بوصولها.

 

عندما قدمت الملابس الجديدة للإمبراطور، أو تظاهروا بتقديمها له، خشى هو نفسه أن يتهم بالغباء، وقد سمع رئيس وزرائه والوزراء يشيدون بجمالها، فأبدى هو أيضا إعجابه وكافأ المحتالين بمكافأة سخية.

سار الإمبراطور فى موكب رهيب، محاطا من جانبى الطريق بالجماهير الغفيرة، التى احتشدت لرؤية الملابس الجديدة، وهو فى الحقيقة عار تماما كما ولدته أمه ــ ولكن الناس صفقوا له، وأخذ الواحد منهم بعد الآخر يبدى إعجابه بألوانها المدهشة للواقف إلى جواره، فإذا بهذا أيضا يوافقه خوفا من أن يظهر غباؤه.

 

شخص واحد من بين المتفرجين على موكب الإمبراطور، وهو طفل صغير، فوجىء برؤية الإمبراطور عاريا فى موكب فخم، فبدا له المنظر غريبا ومضحكا، ولم يستطع أن يكتم شعوره فصاح بأعلى صوته «إن الإمبراطور عار تماما!».

 

بمجرد أن سمع الناس صيحة الطفل، نظر كل منهم إلى الآخرين من حوله قائلا: «الطفل على صواب، الإمبراطور عار تماما!».

 

انزعج والد الطفل الذى كان واقفا بجواره، وخاف خوفا شديدا، وأخذ يعنف الطفل محاولا إسكاته، ولكنه لم يستطع أن يمنع الناس من أن يرددوا صائحين «انظروا.. إن الإمبراطور عار تماما!»، وكأن الناس قد اكتشفوا فجأة أن ما يقال لهم كذب فى كذب، وأن عليهم أن يصدقوا أعينهم بدلا من تصديق ما يقال لهم، وأن كشف الحقيقة لم يكن يحتاج إلى أكثر من كلمة بسيطة ينطق بها طفل برىء.

 

●●●

 

فى الأيام الأخيرة من العام الأول لثورة 25 يناير 2011، قام فى مصر بدور هذا الطفل البرىء شابة مصرية اسمها «نوارة فؤاد نجم». اشتركت نوارة فى ثورة 25 يناير، واستمرت تعبر بقوة عن مطالب الثورة، ثم تحتج على معاملة الثوار بالضرب والقتل، وعلى الاعتداء على الأقباط فى ماسبيرو، وتطالب بحقوق شهداء الثورة وأهاليهم، وتحتج على فشل الممسكين بالسلطة فى تحقيق مطالب الثورة، رافضة كل المحاولات التى بذلت لتبرير هذه الأخطاء، كإلقاء اللوم على بلطجية، أو على «طرف ثالث» مجهول، أو على الثوار أنفسهم، ولا تقتنع بتغيير الوجوه دون تغيير السياسات، وتحتج على الاستعاضة عن حكومة فاشلة، بحكومة فاشلة أخرى، وأثناء مشاركتها فى هذه المطالبات والاحتجاجات فى ميدان التحرير وأمام مجلس الوزراء، كانت تعبر عن رأيها ومشاعرها أيضا فى مقالات فصيحة وبالغة الجرأة فى جريدة التحرير، وفى أحاديث لبعض القنوات التليفزيونية، حتى استدعيت للتحقيق فلم تنكر ما فعلت، ولا غيرت أقوالها، بل قالت إنها بدلا من أن تجلس كمتهمة ستقوم هى بتوجيه الاتهام لمن تعتبرهم المسئولين الحقيقيين عن الإخلال بالأمن والإضرار بالوطن.

 

عندما لم يجد معها تقديمها للتحقيق، رُتب ضدها اعتداء بالضرب والشتم وهى خارجة من مكان عملها فى مبنى الإذاعة والتليفزيون، حيث تعمل محررة ومترجمة بقناة المعلومات المرئية بالتليفزيون المصرى، فلم تجر هاربة من المعتدين بل وقفت صامدة لهم، ثم ذهبت إلى مكتب النائب العام لرفع قضية ضد الممسكين بالسلطة فى مصر.

 

●●●

 

ما الذى يمكن عمله مع شابة كهذه تصر على الجهر بما تعتقده؟ وما الذى يمكن عمله مع الطفل الصغير الذى أصر على إعلان الحقيقة وسط الجماهير المحتشدة التى تنكر ما تراه بأعينها؟ إنها لا تحمل سلاحا، وليست عضوا فى حزب مستعد لحمايتها، وليس لها قريب فى السلطة، وإنما تستمد القوة من شيئين: الأول أنها تقول الحقيقة، والثانى أنها لا تفكر فيما هى معرضة له من مخاطر. هذان الأمران هما ما يجعل أمر هذه الشابة محيرا حقا، وهما أيضا ما جعل ذلك الطفل الصغير فى قصة الإمبراطور محيرا أيضا. إذ كيف يمكن التعامل معهما؟ ليس هناك ما يمكن قوله لإقناع أى منهما بأن ما يقولانه مخالف للحقيقة، وليس هناك ما يمكن عمله لإخافتها: إذ من الذى يجرؤ على المساس بطفل صغير يصف ما يراه أمام عينيه؟ ومن الذى يستطيع أن يخيف امرأة قررت، بينها وبين نفسها، ألا ترهب الموت نفسه.

 

●●●

 

هذه الشجاعة التى أبدتها نوارة فؤاد نجم منذ أيام قليلة سبق أن أبدتها منذ ما يقرب من 17 عاما، عندما كانت لا تزال فتاة صغيرة واشتركت مع بعض زملائها وزميلاتها فى عمل وطنى من الطراز الأول، استطاعوا به منع إسرائيل من تحقيق هدف من أهدافهم فى مصر.

 

ففى منتصف التسعينيات، كثر الحديث فى مصر عما سُمى «مشروع الشرق الأوسط الجديد» بقصة الترويج لفكرة التعاون الاقتصادى بين إسرائيل والبلاد العربية، وما سمى بتطبيع العلاقات بين العرب وإسرائيل.

 

حازت الفكرة تشجيعا من بعض المسئولين المصريين، بل وبتأييد صريح أو مستتر من بعض الكتاب المشهورين ولكنها لم تُعجب كثيرين  من الشباب المصريين، فانتهزوا فرصة الإعلان عن سماح الحكومة المصرية لإسرائيل فى أبريل 1995، بالاشتراك فى سوق القاهرة الدولية، وقرروا الاحتجاج على هذا الاشتراك بالتجمع أمام الجناح الإسرائيلى، وهم يرتدون الكوفية الفلسطينية الشهيرة، والهتاف مطالبين بخروج الصهاينة.

 

كانت نوارة فؤاد نجم واحدة من هؤلاء المحتجين، ولم تذكر الصحف وقتها أنها أو أحد من زملائها قام بأى عمل تخريبى، فلم يذكر أنها رمت أحدا بحجر أو كسرت زجاجا، ولكن مجرد الاحتجاج بالتجمع والهتاف على اشتراك إسرائيل فى المعرض كان كافيا فى نظر الحكومة للاعتداء على 47 شابا مصريا بالضرب بالعصى المكهربة ثم بالاعتقال. سقطت نوارة نجم مغشيا عليها، ثم وضعت فى تخشيبة بقسم الخليفة ليلتين، ثم نُقلت إلى سجن النساء بالقناطر لمدة عشرة أيام، ولم يفرج عنها إلا بانتهاء أيام المعرض. كان رئيس الجمهورية فى ذلك الوقت فى زيارة لواشنطن وربما خشيت الحكومة حينئذ أن يقول الرئيس الأمريكى للرئيس المصرى: «لماذا لم تضرب الشباب المتظاهر فى القاهرة ضد إسرائيل؟»، على أساس أن حق المرء فى التظاهر وفى اختيار نوع الكوفية التى يرتديها ليس مربية حقوق الإنسان الأساسية التى دأبت الحكومة الأمريكية على الدفاع عنها وتأنيب الحكومات التى لا تحترمها.

 

●●●

 

عندما قرأت أخبار هذه المظاهرة فى 1995، كان مما خطر بذهنى أنه «لا عجب، فنوارة هى بنت أمها وأبيها»، الأم صافيناز كاظم، كاتبة موهوبة وشجاعة وتفيض وطنية، وأبوها أحمد فؤاد نجم شاعر موهوب وشجاع أيضا ويفيض وطنية بدوره. وقد كانت الأم حاملا بها عندما دخلت السجن فى 1972 عندما قامت حملة اعتقالات لشباب قاموا بالاحتجاج على تقاعس النظام عن تحرير سيناء. ومن ثم كان تعليق أحمد فؤاد نجم على استدعاء ابنته للتحقيق منذ أيام قليلة، بأن الأمر ليس غريبا، إذ إن البنت دخلت السجن وهى لا تزال فى بطن أمها. وقد جاء ميلادها فى أعقاب حرب أكتوبر مباشرة فسماها أبوها وأمها بهذا الاسم الجميل وغير المألوف «نوارة الانتصار» تفاؤلا بما سيجلبه انتصار أكتوبر لمصر من تحرير، ولأعدائها من انكسار بعد ذل 1967 الطويل.

 

وعندما كانت نوارة مازالت طفلة رضيعة، كتب أبوها فيها شعرا جميلا قال فيه:

 

«أبوكى أيوه .. ماكنشى حاجة

 

لكنه حـاول .. يعيش لحـــاجة

 

وجيلك انتى .. هيبقى حاجــة

 

ومصر تبقى .. النهاردة حاجـة

 

وبكرة حتما .. حاتبقى حاجة»

 

ومنذ ذلك الحين، والأم صافيناز كاظم تكتب أشياء جميلة فى موضوعات شتى، ولكن الكثير منها يصب فى الانتصار لبلدها وأمها. ففى كتاب جميل بعنوان «تلابيب الكتابة» (صادر عن دار الهلال فى 1994) تقول صافيناز كاظم فى وصف القاهرة:

 

«أنت يا قاهرة رائعة وتذوبين فتنة وأصالة، فلا يهمك. فقط لا تنظرى بعيون قلقة. وعندما تقررين شيئا لا تترددى. لا تستعيدى ما لا يلائمك، وامتلئى ثقة فأنت حسنته. لا تصدقى أننى أتركك، فقط لو تكونين أنت، ولا تجعلينى يا قاهرة، أجهش بالبكاء أكثر».

 

كما استمر أبوها أحمد فؤاد نجم يكتب وينشد أشعارا جميلة فى الانتصار لبلده وأمته. وعندما نشر مجلدين فى السيرة الذاتية بعنوان (الفاجومى)، أهدى الكتاب لبناته الثلاث ومنهن نوارة، بهذا الإهداء البليغ، وإن كان بالعامية.

 

«يمكن ماتلا قوش فى حياة أبوكو شىء تتعاجبوا بيه لكن أكيد مش حاتلاقوا فى حياة أبوكو شىء تخجلوا منه، هو دا اعتقادى اللى دافعت عنه، ودفعت ثمنه بمنتهى الرضا».

 

ثم كتب لنا مسرحيته الجميلة «عجايب»، التى كانت تعرض على مسرح البالون فى نفس الوقت الذى كانت فيه نوارة تشترك فى مظاهرة فى سوق القاهرة الدولية. يسخر فيها نجم من الفساد الذى عم البلاد، ولكن المرء يخرج منها على إيقاع موسيقى جميلة أيضا، مملوءة بالفرح والتفاؤل.

 

أما نوارة نجم ففى مقال حديث لها (جريدة التحرير 21/1/2012) كتبته فى أعقاب التحقيق معها، ثم الاعتداء عليها أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون، وتحت سمع وبصر قوات الجيش المكثفة التى تحمى المبنى، إلى جانب أمن التليفزيون، بينما وقف رجل يعطى التوجيهات لمن يقوم بضربها، تقول:

 

«أتوجه بخالص الشكر والعرفان لقادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذين قدروا قوتى بخمسة وعشرين عسكرى جيش.. ولا هدف لكل ذلك إلا تخويفى.. طب أنا ماباخفش، أعمل إيه؟.. وأنا واحدة مش فاضية وورايا ثورة.. أعمل نفسى خايفة عشان تسيبونى أشوف إللى ورايا؟».

 

الأم صافيناز كاظم سيدة متدينة متحمسة لدينها، والأب أحمد فؤاد نجم، علمانى متحمس لنفسه، ولكن كليهما شديد الولاء للوطن، وشديد الحساسية بأى جرح يصيبه.

 

وكان هذا الالتقاء بينهما فى الولاء للوطن هو، على الأرجح، ما جمع بينهما ابتداء، وهو الذى أثمر نوارة الانتصار. فإذا كانت قد تفرقت بهما الطرق فيما بعد، فقد ظل يجمع بينهما حب الوطن من ناحية، وحب نوارة من ناحية أخرى. وها هى نوارة نجم تقدم لنا دليلا ساطعا على أن المسألة ليست مسألة تدين أو علمانية، بل المسألة هى من الذى يحب وطنه ومن الذى لا يهمه الأمر.

 

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات