السياسة الاقتصادية الراهنة وحماية الإنتاج المحلى - محمد عبدالشفيع عيسى - بوابة الشروق
الإثنين 25 نوفمبر 2024 12:58 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السياسة الاقتصادية الراهنة وحماية الإنتاج المحلى

نشر فى : الأحد 27 أغسطس 2017 - 9:25 م | آخر تحديث : الأحد 27 أغسطس 2017 - 9:25 م
تثير مفردات السياسة الاقتصادية فى الآونة الأخيرة قضايا مهمة عديدة، ومن بينها ما يتعلق بضرورات حماية الإنتاج المحلى، ليس فقط من زاوية حماية ما هو قائم، ولكن أيضا حماية ما سوف يتم ــ وما ينبغى ــ استحداثه أو تطويره من الطاقات الإنتاجية. 
تشتد أهمية الحماية بهذا المعنى فيما يتصل بالقطاعات السلعية، وفى مقدمتها الزراعة وصيد الأسماك والصناعة، وخاصة الصناعة التحويلية أى القائمة على تحويل مزيج المواد الأولية والطاقة إلى منتجات قابلة للاستخدام النهائى والوسيط.
نناقش فى البداية هنا أثر خفض قيمة العملة المحلية، من خلال ما يسمى بتحرير سعر الصرف أو «تعويم الجنيه»، وكذا خفض الدعم على الوقود والطاقة، ورفع فئات التعريفة الجمركية عن بعض المجموعات السلعية.
وعادةً ما يُذكر فى مجال الإنتاج الموجه للسوق المحلية، لاسيما من خلال إحلال المنتجات المحلية محل الواردات، ضرورة منح الحماية لهذه المنتجات المحلية ــ و لو لفترة انتقالية ــ استنادا إلى ما يسمى «حجة الصناعة الوليدة». 
ولكن الحماية الجمركية فرضت عليها قيودا مشددة من قبل «اتفاقية منظمة التجارة العالمية» من خلال وضع سقوف عليا تندرج تحتها تعهدات الدول الأعضاء بنسب التخفيض ومددها الزمنية، وكذلك الحال مع إجراءات الحماية غير الجمركية التى قيدتها أو منعتها هذه الاتفاقية بأشكال متنوعة. من قبيل هذه القيود، نظام الحصص (الكوتا) على الواردات من سلع معينة أو بلاد معينة، أو التنظيم الإدارى بواسطة (التراخيص) وكذلك الإجراءات المالية (الدعم و الإعفاء الضريبي) أو من قبيل التشدد فى اشتراطات السلامة الصحية والبيئية والأمان. وسمحت الاتفاقية المذكورة بتطبيق بعض الإجراءات، وفق ضوابط معينة، كما فى حالات الإغراق وفيضان الواردات، وكذا فى حالة الدول التى تعانى من عجز فى موازين المدفوعات، وفق المادتين رقم 8 و 28 من اتفاقية الجات 1947 المدمجة فى «اتفاقات أوروجواى» التى أنشئت بموجبها «منظمة التجارة العالمية» عام 1994. وقد أتاحت الاتفاقية حق الشكوى للأطراف المتضررة من جراء الممارسات التقييدية المختلفة، مثل إعانات المنتجين المحليين للدول المعنية ودعم الصادرات، فى الحالات غير المسموح بها.
***
بيْد أن خفض قيمة العملة المحلية فى مصر منذ مطلع نوفمبر2016، يقدم فرصة كبيرة للمنتجين المحليين، من المصنّعين والمزارعين. ذلك أن ارتفاع أسعار الواردات من المنتجات النهائية يعطى ميزة تنافسية سعرية محتملة للمنتجات المحلية، مما يجعل من الممكن للمنتجين فى الداخل زيادة الطاقات الإنتاجية والتوسع فى إنتاج السلع والخدمات المعدة للبيع، بأسعار تنافسية. هذا يشكل نوعا من «الحماية غير المقصودة»، مما يشجع عمليات الإحلال محل الواردات، وهو مطلب طالما تحدّث به اقتصاديون عديدون.
يصدق ذلك أيضا على القرارت الصادرة بتنظيم الاستيراد، وخاصة القرار الوزارى رقم 992 لسنة 2015 (من قبل وزير الصناعة والتجارة) القاضى بضوابط للاستيراد لنحو 50 سلعة، والقرار الجمهورى رقم 538 لسنة 2016 الصادر يوم 27 نوفمبر 2016 والمتضمن زيادة التعريفة الجمركية على 320 مجموعة سلعية ــ ضمن السقوف المسموح بها من قبل منظمة التجارة العالمية ــ منها سلع «غير ضرورية» و أخرى ذات مثيل محلى.
ولكن هناك مشكلة تتعلق بأثر الزيادة الجزئية فى الرسوم الجمركية على الواردات من السلع النهائية، مقابل الرسوم المنخفضة نسبيا على واردات مستلزمات الإنتاج الوسيطة والقطع المفككة من الآلات والأجهزة ومعدات ووسائل النقل المعدة للتجميع أو التركيب. فإن ذلك قد يؤدى إلى محاباة أنشطة التجميع التى تنتهى بتقديم منتجات ربما ذات جودة أقل من المستورد ولكن بأسعار مرتفعة بفعل أسوار الحماية الاسمية للمنتجات المصنّعة، من جهة، والحماية الفعلية أيضا، الناجمة عن الانخفاض النسبى لفئات التعريفة الجمركية على استيراد المدخلات الوسيطة، من جهة أخرى. 
يجب الأخذ فى الاعتبار أيضا ما يدخل فى حساب «الحماية الفعلية» من دعم الصادرات للمنتجات المصنعة أو المجمّعة محليا، وأثر الضريبة ممثلا فى فترات الإعفاء الممنوحة للمشروعات الاستثمارية الجديدة فى مجالات ومناطق معينة، وانخفاض معدل الضريبة على الدخل عموما، والبالغ فى حده الأقصى 22,5% حاليا. 
وقد يحدث، نتيجة لذلك، نوع من التراخى فى زيادة نسبة التصنيع المحلى للمكونات والأجزاء ذات النصيب النسبى المرتفع من القيمة المضافة، وإطالة المدى الزمنى لعمليات التجميع بنسب مختلفة، مما يعيق «التعميق الصناعى»، نظرا لارتفاع الربحية النسبية لمبيعات السلع المعمرة والآلات ووسائل النقل المجمّعة فى الداخل.
***
وعودة إلى أثر خفض قيمة العملة المحلية، لنجد أن هذا الخفض يترتب عليه ارتفاع فى تكلفة واردات السلع الوسيطة والرأسمالية مقومة بالجنيه، وهى التى يعتمد عليها الإنتاج المحلى اعتمادا أساسيا، قد يصل إلى درجة الاعتماد شبه الكلى فى بعض القطاعات؛ كما ستزداد تكلفة الإنتاج نتيجة خفض الدعم الحكومى المقدم لبعض المدخلات ذات المنشأ المحلى، وخاصة الطاقة. ففى الزراعة يؤدى خفض قيمة العملة وتقليل الدعم على الوقود إلى رفع أسعار المدخلات المستخدمة، من البذور والأسمدة والمبيدات الحشرية والآلات الزراعية. هذا من جهة أولى. ومن جهة ثانية، فإن خفض الدعم على الوقود، وخاصة من «السولار»، يؤدى إلى رفع تكلفة الوقود المخصص لتشغيل الآلات الزراعية والتى بات يعتمد عليها المزارع المصرى ــ بما فى ذلك المزارع الصغير ــ اعتمادا شبه كلى فى الأنشطة الزراعية المختلفة (حرث ــ بذار ــ تسوية ــ حصاد). 
ويرجح أن يحدث كذلك ارتفاع فى النفقة الحدية والمتوسطة للإنتاج المحلى، سواء منه الزراعى أو الصناعى، نتيجة «أثر التداعى» أو النتائج المتتابعة والمتسلسلة للقرارات الاقتصادية الأخيرة عبر الحلقات المختلفة لدورة الإنتاج والنقل والتسويق والبيع فى سوق الجملة والتجزئة، وخاصة فى ضوء تشوه وتجزؤ السوق المحلية، وتعاظم النزعات الاحتكارية وضعف الرقابة على أسواق المنتجات من حيث: السعر والجودة والمواصفات الصحية والبيئية والتقنية. 
لذلك يجب العمل من أجل توفير الإطار المؤسسى اللازم ــ فى إطار تطوير آليات مناسبة «لتخطيط الأسعار» ــ من أجل حساب الأثر الدقيق للحماية المحتملة لبعض السلع جراء خفض العملة ( لما يترتب عليه من ارتفاع الأسعار النسبية للسلع المستوردة مقابل السلع المنتجة محليا ــ كما سبقت الإشارة)، والأثر الدقيق كذلك للحماية الاسمية الناجمة عن رفع الرسوم الجمركية على سلع موجهة للاستخدام النهائى، وأثر «الحماية الفعلية» أيضا، المترتبة على الانخفاض النسبى لفئات التعريفة على مجموعات سلعية موجهة للاستخدام الوسيط والرأسمالى، كما سبقت الإشارة.
قد يكون من شأن كل ذلك أن يؤدى إلى (استمراء) الحماية من قبل فواعل القطاع الخاص الكبير بالذات، ومن ثم تدنّى مستويات الكفاءة الإنتاجية للمنشآت المعنية عبر الزمن. كل ذلك مقابل الأثر السلبى على شطر كبير نسبيًا من المنتجين المحليين، الصغار والمتوسطين، بفعل زيادة التكلفة المتوسطة والحدية نتيجة لارتفاع المستوى العام للأسعار.
وفى الإنتاج الصناعى، على وجه الخصوص، يحدث ارتفاع لأسعار الخامات الأولية والمستلزمات الوسيطة والآلات والمعدات المستوردة جميعا، مقومةً بالجنيه، جراء انخفاض قيمة العملة المحلية مقابل ارتفاع سعر صرف الدولار، كما أشرنا غير مرة، وذلك بنسبة خفض قيمة الجنيه أو قريبة منه زيادة أو نقصانا. هذا مع العلم بأن المنتجين يمكن أن يكون بوسعهم دائما نقل عبء زيادة التكلفة وتحميلها للمستهلك النهائى من خلال جهاز الأسعار فى «السوق الحرة»؛ وخاصة فى ضوء ضعف الرقابة وتعاظم وتعمق قوة الاحتكارات الفعلية عبر الزمن، برغم تحجيم بعض «الممارسات الاحتكارية» بمقتضى «قانون تنظيم المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية»، دون مساس بالاحتكارات نفسها والتى لا يطالها القانون، كما هو معروف. 
كل ذلك يجعل الفئات الاجتماعية من كاسبى الأجور والمرتبات أو (أصحاب الدخول الثابتة) فى مرمى التضخم السعرى متعدد الوجوه، وهم الكتلة الكبرى من المشتغلين فى القطاع الحكومى والعام (عمالا وموظفين). أضف إلى ذلك، المزارعين الصغار والمتوسطين، وعديد العاملين فى القطاع غير الرسمى و «المشتغلين لحساب أنفسهم»، وعائلاتهم بالتبعية؛ وفى الجملة «الغالبية الاجتماعية الساحقة» التى تمثل ما بين 80% إلى 90% من السكان.
***
فى ضوء ما سبق، ينبغى حساب الأثر الدقيق للتغير فى أسعار الواردات من السلع النهائية، وواردات المدخلات الوسيطة والسلع الرأسمالية، مع النظر فى تعويض المصنّعين والمزارعين، من المنتجين الصغار والمتوسطين ممن لا يملكون القدرة على التأثير فى اتجاهات الأسواق. ونقصد هنا تعويضهم عن الأثر السلبى الصافى المترتب على القرارات الاقتصادية الأخيرة، على الأقل من خلال إعادة النظر فى البرنامج الزمنى لإلغاء أو خفض الدعم على الوقود والطاقة الكهربائية بالنسبة للشرائح الدنيا والمتوسطة من الدخل والإنفاق. إلى جانب العمل على تطوير الأدوات الاتئمانية لتداول الأسمدة والمبيدات والبذور ــ فى حالة الإنتاج الزراعى ــ والمدخلات الأولية والوسيطة للإنتاج الصناعي؛ بأسعار فائدة معقولة. كذلك ينبغى تشجيع التعاونيات الإنتاجية الزراعية والحرفية والصناعية إلى أبعد حدّ ممكن. 
ولعله تجب الإشارة هنا، فى المقابل، إلى المفارقة المتمثلة فى محاباة الحكومة لشرائح نافذة من القطاع الخاص، من خلال تعويض شركات المقاولات المشتغلة فى عقود الأشغال العامة. ومن المفترض أن ينطبق نفس المنطق «المعقول» على الجميع.
نقطة أخرى يجب الإشارة إليها وهى: الأثر الانكماشى لرفع أسعار الفائدة المتكرر حتى بات يلامس حاجز 20% فيما يتعلق بالإقراض، مما يمكن أن يؤدى إلى تردد المستثمرين المحتملين والمنظِّمين فى اتخاذ القرار الاستثمارى، وقد يؤدى إلى تصفية بعض المشروعات أو التحول إلى الإيداع المصرفى ذى العائد (الريعى) المرتفع نسبيا بالمقارنة مع معدل العائد المتوقع على الاستثمار. ويتطلب ذلك تطبيق نظام متعدد المستويات لأسعار الفائدة، حيث ينبغى تسهيل منح الائتمان بمعدلات فائدة تفاضلية وبشروط ميسرة من حيث فترات السماح وأجل السداد للمشروعات ذات الأولوية من حيث القدرة على إشباع الاحتياجات الأساسية للمجتمع.

 

محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
التعليقات