لا أذكر متى كتبت آخر رسالة بخط اليد واخترت لها مظروفا لائقا وكتبت عليه عنوان المرسل إليه، ثم حملته وذهبت به إلى أقرب مكتب بريد فاشتريت طابعا وأمسكت بأحد أطرافه بكل ما يستحق من رقة واقتربت منه لأبلل بطرف لسانى وجهه الآخر ثم وضعته على المظروف فى وضع هندسى لائق وضغطت عليه بقبضة يدى ليلتصق قبل أن أترك المظروف يدلف فى فتحة الصندوق الأحمر المثبت على جدار مكتب البريد من الخارج.

●●●

ذكرنى برسائل البريد وأيامها الاجتماع الذى عقدته لجنة التجديد والمهارات فى مجلس العموم البريطانى لمناقشة مصير «الرسالة البريدية». لا أظن أن برلمانا آخر فى العالم، غير برلمان بريطانيا، يناقش باهتمام مسألة لو طرحت فى دولة أخرى لخرجت عشرات المقالات تسخر من النواب وتؤلب عليهم الرأى العام، ولما انتظر الساخرون نتيجة المناقشة أو تريثوا ليعرفوا دوافع طرح الموضوع ويطلعوا على الأفكار النبيلة والمتحضرة التى حفلت بها المناقشة.

يقول النائب الذى أثار القضية إن هيئة البريد البريطانية قررت زيادة ثمن طابع البريد «العادى» ناسية أو متجاهلة حقيقة أن قطاعا مهما من الشعب البريطانى، وأغلبه من كبار السن، لن يتمكن من مواصلة التواصل مع أهله وأصحابه وتسيير مصالحه، وإن هناك احتمالا قويا أن تتوقف هذه الخدمة نهائيا، وهو ما لا يجب أن يحدث.

خرج من بين النواب من يعتقد أن القضية أهم كثيرا من مجرد خدمة زادت تكلفتها، داعيا إلى ضرورة المحافظة عليها مهما كلف الأمر، ليس فقط لأن قطاعا من المواطنين ما زال مستفيدا من وجودها، ولكن أيضا لأن قطاعات أخرى فى المجتمع البريطانى فى حاجة إلى ما يسد بعض الفراغ فى حياتها ويزيل بعض الملل الناتج عن رتابة الحياة العصرية وقد يكمن الحل فى طابع البريد. اقترح أحد النواب أن يقوم مجلس العموم بتشجيع المواطنين كافة على العودة إلى كتابة الرسائل البريدية كوسيلة للتسلية، مثلها مثل ممارسة لعبة الجولف ورياضة المشى. وراح آخرون يؤكدون أنها ستكون تسلية مفيدة لأنها قد تعيد للمواطن ملكة الكتابة التى فقدها منذ أن اختار البريد الإلكترونى وسيلة للتراسل والتواصل.

●●●

يعود تاريخ طابع البريد البريطانى الموحد والرخيص الثمن إلى عام 1840. وقد أولى مؤرخون أهمية كبيرة لهذا الحدث. يعتقدون أنه كان أحد أهم القرارات «الديمقراطية» التى اتخذت فى القرن التاسع عشر. بفضله هجر ملايين البشر من الإنجليز عالم الأمية والجهل إلى عالم الكتابة والقراءة، وبفضله زالت فروق واسعة بين طبقة كان أفرادها قبل ظهوره يتراسلون ويقضون مصالحهم التجارية والشخصية باستخدام شركات وعملاء ينقلون الرسائل بتكلفة باهظة لا يقوى عليها إلا الأغنياء جدا، وطبقة كان يستعصى على أفرادها الاتصال بعضهم بالبعض الآخر. من ناحية أخرى استفاد ت الأمة بأسرها إذ أصبحت المقاطعات النائية فى المملكة المتحدة تشعر بأنها جزء أصيل من الوطن. كذلك قضى التنظيم الجديد للبريد فى 1840 بأن يتحمل المرسل تكلفة البريد بعد أن كان يتحملها المرسل إليه، وهو الأسلوب الذى كان يؤدى غالبا إلى عودة الرسائل إلى مرسليها أو فقدها نتيجة رفض تسلّمها.

●●●

لم يخطر على بالى من قبل، هذا العدد الهائل من الفوائد التى عادت على إنجلترا وعلينا فى مصر، والبشرية عموما، نتيجة تطبيق نظام الطابع الموحد والرخيص. لم يخطر على بالى أن طابع البريد لعب هذا الدور فى زيادة وتوسيع الطاقات الذهنية ومدارك ومعارف المواطنين. فقد شجع المواطن على أن يكتب رسائل عديدة، وأن يكتب فى الرسالة الواحدة موضوعات متعددة بعد أن كانت العادة تقضى بأن يكون هدف الرسالة الخطية إبلاغ خبر أو تسجيل حدث مثل رحيل شخص كبير فى العائلة أو اتخاذ قرار بالهجرة أو عرض مزرعة للبيع أو الذهاب إلى الحرب. تغيرت العادة بمرور الوقت وبالتشجيع على تبادل الرسائل وانفتح الناس على بعضهم البعض، وصاروا يتبادلون أخبارا شتى، ويفسحون السطور للتعبير عن عواطفهم ومشاعرهم.

●●●

كانت الرسائل الخطية تحتوى على معلومات ثمينة للغاية، مثل أحوال الشعوب وطبيعة العلاقات بين أفراد العائلة وانشغالات الناس وحال البيئة والأوضاع الاقتصادية وقضايا الحروب وأنشطة الترفيه والتسلية.. هذه المعلومات، وغيرها كثير، كانت «زاد» المؤرخ الذى لن يجده فى أى مكان آخر، ليس فقط لأنها كتبت فى وقتها، ولكن أيضا لأنها كتبت بصدق وشفافية وبدون غرض وبعيدا عن أعين الرقباء والبصاصين.

وما زلنا إلى اليوم، نسعى إلى تعميق معرفتنا بالشخصيات التى تركت بصماتها على مسيرة الثقافة والحضارة من خلال رسائل غرامية يكشف النقاب عنها أو يعثرون عليها مخبأة بعناية فى قبو منزل عتيق أو بين صفحات كتاب قديم، يتسابق على اقتنائها هواة الاحتفاظ بالأوراق والتحف النادرة والمتاحف ودور الوثائق التى تعرضها ليستفيد منها المؤرخون فى تصحيح سير العظماء أو تدقيقها.

●●●

نعتمد فى حياتنا المعاصرة على البريد الإلكترونى وغيره من وسائط العصر لنتبادل الرسائل ونتواصل. أشعر بأسى فادح لأننى لا أتصور أن مؤرخا فى القرن الثانى والعشرين سوف يلجأ إلى هذه الرسائل الالكترونية للتعرف بدقة على تفاصيل حياتنا الاجتماعية، أو كيف نقضى وقت الفراغ، أو تفاصيل وأعماق علاقاتنا الشخصية. أتصور أن هذا المؤرخ سيكتشف أن فى القرن الحادى والعشرين عاش أناس لم يعرفوا الحب كما عرفه من سبقوهم فى القرنين التاسع عشر والعشرين أو عرفوه ولكن لم يجدوا الوسيلة المناسبة للتعبير عنه أو ليبدعوا فى تصويره وتسجيله.

●●●

نجح المؤرخون المعاصرون فى شرح تفاصيل الحياة فى معظم دول الغرب لاعتمادهم الكبير على الرسائل الورقية التى كان البريد العادى يحملها من مدينة إلى أخرى فى أوروبا أو عبر الأطلسى.

نعرف تماما كيف كانت الحياة فى البيوت الكبيرة فى لندن وباريس ونيويورك واطلانطا ونيو اورليانز، من خلال ما قرأنا من رسائل تبادلتها الخادمات العاملات فى هذه البيوت مع صديقاتهن وأهاليهن. ونعرف تماما كيف كان كبار القادة العسكريين والسياسيين يقضون الوقت خلال رحلاتهم بعيدا عن عائلاتهم وأوطانهم من خلال رسائلهم إلى عشيقاتهم وأصدقائهم. مثل هذا الرصيد لن توفره للمستقبل مرحلة البريد الإلكترونى.

●●●

نفتقد المعلومات التى كانت تحويها رسالة البريد، ونفتقد «عبقرية» كتابتها وعذوبة كلماتها ورقة مشاعرها ورائحة عطرها. سنفتقد طابع البريد.