هل يمكن للتونسيين الذين أجبروا بن علي على الفرار ودشنوا "الربيع العربي" إنقاذ بلادهم بعيدًا عن الغرق في مستنقع كمصر أو الفوضى في سوريا والاضطرابات في ليبيا، وذلك بمجرد مصادقتهم على دستور ديمقراطي " نقي من شوائب " الشريعة الإسلامية؟
سوف لن ننغص فرحتنا بصياغة دستور جديد يضم العديد من المبادئ والقيم التي ضحى من أجلها التونسيون، في تواصل مع التاريخ الإصلاحي في بلد عرف أول دستور في العالم العربي سنة 1861، بل إن هذا الدستور هو شرط ضروري لتقويض الأسس القانونية لديكتاتورية السلطة التي سادت منذ الاستقلال سنة 1956.
لكن السؤال هو: "هل هو كاف لحماية البلاد من الأوتوقراطية والحكم المطلق؟ نحن نشك في ذلك.
فدستور 1959، الذي يحوي كثيرًا من المبادئ التي تحمي الحريات الفردية والعامة، وخاصة الحق النقابي يبرر هذه المخاوف، إذ لا يكفي نص دستوري جيد لوحده لتدشين ربيع الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية.
هناك الآن صراع من أجل السلطة افتتحته حركة النهضة، التي ما أن حققت النجاح الانتخابي حتى حادت بنهج وطبيعة المرحلة الانتقالية الثانية عن الهدف الذي رسم لها، وهو أن يكتب دستور خلال سنة فقط بعد 23 أكتوبر 2011. إذ تنكرت هذه الحركة للرسالة التي عهدها لها الناخبون التونسيون، ضاربة عرض الحائط بمبادئ ثورة الحرية والكرامة، ومثيرة أزمة غير مسبوقة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي وحتى على مستوى الهوية، و ذلك وصولا إلى التراجع عن مكاسب اجتماعية ومدنية ميّزت تاريخ بلادنا.
إن المصادقة على دستور جديد بشبه إجماع هو مكسب هام جدًا، وسوف يستعمل بلا أدنى شك من طرف الترويكا الحاكمة وخاصة من حركة النهضة في الأشهر التي ستفصلنا عن الانتخابات القادمة لاستعادة احتياطها الانتخابي وتلميع صورتها دوليًا. لكن لا يجب التسرع في الحكم على الدستور الجديد، فلا يمكن الحكم عليه إلا بعد الانتهاء من صياغته وذلك سواء على مستوى التفاصيل أو على مستوى الرؤية العامة أو كذلك في العلاقة بأحكامه الانتقالية.
نريد فقط التنبيه إلى أن "الغموض الخلاق" حول الفصل الأول من دستور 1959 الذي لم يتغير في الدستور الجديد والذي ينص على أن "تونس دولة حرة ومستقلة وذات سيادة، دينها الإسلام ولغتها العربية ونظامها جمهوري،" سمح بإرساء دولة مستقلة ، استبدادية دون شك، ولكنها في نفس الآن مدنية.
هذه الدولة استمرت لأكثر من نصف قرن بفضل تأويل جعل من الإسلام دين تونس وليس دين الدولة.
لكن قراءة متحيزة، تطبخ على نار هادئة من قبل شيوخ النهضة تجعل من الإسلام دينًا للدولة هي بصدد الإعداد منذ فوز الحركة في انتخابات 2011. هذه القراءة يمكن أن تقوض الأسس التي تبني عليها مدنية الدولة. يمكننا أن نعي أن عددًا من الأطراف تريد المحافظة على الغموض كي لا تنغص التحالفات الهشة، إلا إننا نرى أن المشكل حول هذا "الغموض المقصود" يمنع كل نقاش في الموضوع، خاصة بعد تثبيت هذا الفصل بفصل جديد، اللهم بعد ثورة أخرى، ثورة قانونية، على الأقل.
يمكن أن نستخلص ثلاثة دروس من كل هذا:
الأول هو أن النضال والمقاومة قد أتيا أكلهما، حتى وإن كان الثمن أحيانًا الاغتيالات السياسية، فقد أثبت الإسلام السياسي فشله سواء على المستوى العقائدي أو على المستوى التطبيقي، حيث لا يمكنه تنفيذ برنامجه في "إعادة أسلمة المجتمع" الآن. كما أنه نفر شرائح هامة من ألمواطنين اكتشفوا أن قضيتهم الأساسية ليست مع الإسلام بل مع الإسلام السياسي، الذي لا يمكنه أن يدفع بالبلاد نحو الحرية والكرامة والديمقراطية، لأن تسييره للشأن العام لم يخلف سوى عدم الاستقرار والعنف.
أما الدرس الثاني فله علاقة بتراجع الإسلاميين ،الذي كان بالأساس تكتيكيًا، لأنه لا يعبر عن تنازلات مبدئية تنم عن تغيير في جوهر إيديولوجيتهم وقناعاتهم. فالقياديون الإسلاميون برغماتيون ومناورون ، يجيدون لعب دور الضحية بمهارة ويشتكون دائمًا المؤامرات ضدهم، يراوحون بين شيطنة "أعداء الثورة" ومهادنتهم. لذلك هم لا يحيدون عن الطريق الذي رسموه: يقبلون بالدستور، محاولين في نفس الوقت تلغيمه بأقصى ما يمكن، مقابل بقائهم في السلطة بطرق قابلة للتفاوض. من هنا جاءت قدرتهم على الاستفادة من الحوار، إن كان وطنيًا (بشكل رسمي) أو في الكواليس. وللوصول إلى تلك النتيجة، هم في أشد الحاجة إلى تلميع صورتهم بعد سنتين من حكمهم الكارثي.
هم يريدون إثبات ما يعتبرونه اعتدالا: عدم التنصيص على الشريعة في الدستور، (لكن الإسلام يشمل الشريعة) ولا وجود لوزرائهم في الحكومة، لكن مع الإبقاء على السيطرة على المجلس التأسيسي، الذي بيده السلطة الحقيقية. يمكن للمعارضة العلمانية أن تنام الآن بسلام ويمكن كذلك للملاحظين والدبلوماسيين أن يطمئنوا. لكن إلى متى؟
أما الدرس الثالث فله علاقة بالسياق الجيوسياسي وتأثيراته على تكتيكات الإسلام السياسي، إذ أن "الزلزال" (حسب عبارة الغنوشي) في مصر حرم النهضة من وجود الإخوان المسلمين في السلطة كحليف هام، تباينت معه النهضة (دون قطيعة) خلال سنوات الجمر بخصوص قضايا تتعلق بحقوق الإنسان والديمقراطية.
فقد ساهمت النهضة في إعداد الوثائق التي أنجزتها "هيئة 18 أكتوبر للحريات" سنة 2008، وثائق تتعلق بقضايا تهم حقوق المرأة، المساواة بين الجنسين، حرية الضمير والمعتقد، العلاقة بين الدين والدولة والدولة المدنية المؤسسة على قاعدة الديمقراطية وحقوق الانسان. ولكن مع فوز المجموعة الإخوانية في مصر وتونس، مدعومة من العربية السعودية وقطر، لم تتردد النهضة في التراجع عن تعهداتها المعلنة سنة 2008.
الآن أجبرت النهضة على استخلاص الدروس من انحيازها الأعمى للإخوان المسلمين الذين وقف ضدهم ملايين المصريين، والذين أخرجهم الجيش بانقلاب دموي من السلطة وكذلك من انحيازها لقطر، الممول الرئيسي لمشروع "الإسلام الديمقراطي"، التي تدفع به هذه الإمارة الغنية والرجعية في نفس الآن.
إن ما قام به السلفيون والجناح الجهادي العنيف منهم أثار أيضًا ردود فعل قوية من قبل الممولين الغربيين لتونس: هؤلاء الممولون يخشون تبعات الفوضى التي يمكن أن تنجم عن الإرهاب في تونس مع تفرعاته المغاربية وحتى أبعد من المنطقة المغاربية، خاصة أن الأمر يتعلق بدولة ضعيفة أنهكتها آلاف من تسميات المحاباة والموالاة للنهضة.
الجزائر بلد مهم بالنسبة لتونس، لها أيضًا قول في الموضوع. كل هؤلاء الفاعلين مهتمين بشكل متفاوت بالأجندة الديمقراطية في تونس، رغم أن البعض غير مرتاح لهذا الانتقال الديمقراطي الذي يمكن أن يكون درسًا في التغيير لشعوب مجاورة.
لكن ما يسمى بالخطاب المزدوج للإسلاميين له أيضًا استعمال مزدوج: التعامل بعدوانية مع "شركاء الداخل"، وفى نفس الوقت طمأنة الدبلوماسيين الغربيين. بالأمس، لما كنا ندافع عن حقهم في الوجود ونستنكر القمع الوحشي الذي يواجهونه، كنا نقول يجب أن نأخذهم على كلامهم. التجربة أثبتت اليوم أنه يجب الاحتياط من غموض كلامهم، أيضًا.
نعم إن الدستور مكسب هام، لكنه لا يمكنه لوحده أن يحدد مجرى الأحداث. الإمكانيات التي يعتمدها الفاعلون السياسيون ونشطاء المجتمع المدني ، تطورات الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية، التحالفات (محليًا وجهويًا)، كل هذه العوامل تمثل الطرف الآخر الذي يعتبر أكثر تحديدًا في المعركة التي تتهيأ اليوم، والتي سيحدد مالها ( في مرحلة أولى، لأنها ستتواصل بأشكال مختلفة، إن فازت النهضة أو لم تفز) عبر المحطات الانتخابية القادمة، وذلك سيكون مرتبطًا –ولو جزئيًا- بمقدار مصداقية واستقلالية الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وكذلك القانون الانتخابي الذي سيسطّر ملامح موازين القوى السياسية.
كذلك المناخ العام الذي ستجرى فيه العملية الانتخابية ( الوضع الأمني احترام الحريات، مدى الاحتقان الاجتماعي، الأوضاع الجهوية، الاقتصادية، الثقافية...) هو عامل مهم.
كما تعتبر ثقة الشعب في المسار الديمقراطي الفاعل الرئيسي الثالث لتأمين تغيير دائم: مدى التزام الشعب بهذا المسار، تماسكه، قدرته على مواجهة المصاعب وعدم الانزلاق في مستنقع القدرية أو التمرد.
في النهاية، على القوى الديمقراطية والسياسية ونشطاء المجتمع المدني أن تعيد الأمل لهذا الشعب.