مرارا وتكرارا، ونحن نكتب عن التكامل فى الأمن القومى المصرى بين متغيرات ثلاثة، وهى؛ القدرة العسكرية، والأبعاد الاقتصادية المتصلة بالعدالة الاجتماعية، والأبعاد السياسية التى تمتد إلى المشاركة الفاعلة فى صنع السياسة المصرية، كما تعنى كذلك التضمين وعدم الاستبعاد، ومهما كانت الأسباب، إنها تغطى مفهوم المواطنة بما تعنيه من عدم التمييز أو التفريق بين المواطنين.بهذا المعنى؛ فإن المفهوم التقليدى للأمن القومى، والذى يقتصر على القدرة العسكرية وحدها، لم يعد ملائما أو صحيحا، ولقد تطورت استراتيجيات الأمن القومى فى الدول الكبرى؛ كالولايات المتحدة الأمريكية، لتتضمن كلا من الحرية والعدالة كأساسين لا يتحقق الأمن القومى بدونهما.
***
مؤدى ذلك أن تهديدات الأمن القومى المصرى لم تعد خارجية فقط أو داخلية فقط، ولكنها تشمل كلا من المصادر الخارجية والداخلية التى تتعلق بمدى توافر توافق قومى حول الأهداف الكبرى لمصر، وإذا كانت إسرائيل بما لديها من خطط استراتيجية تجاه مصر، وبما لديها من أسلحة نووية، ونظرا لرفضها حل القضية الفلسطينية، وبما تحتله من أراضى دول عربية شقيقة ـ سوريا ولبنان ـ تمثل التهديد الرئيس للأمن القومى المصرى حتى اليوم، لأن كل ما سبق يشير إلى اختلال فى توازن القوى العسكرى، كما يشير كذلك إلى توسيع نطاق التشدد الدينى، وامتداد شعبية التيارات الدينية فى الوطن العربى والعالم الإسلامى، كما أن الاتفاق المبدئى بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية بشأن تبادل الأراضى بين مصر وإسرائيل (وهو اتفاق لم تكن مصر طرفا فيه)، وهو الذى نوقش بين الطرفين منذ أكثر من ست سنوات، يشكل حجر الزاوية فى استراتيجية إسرائيل نحو خلخلة قطاع غزة وتصدير التشدد الدينى فيه وحوالى نصف عدد سكانه إلى مصر.
ويرتبط بذلك، ولا ينفصل عنه، محاولات إسرائيل توثيق علاقاتها المتنوعة بكل من إثيوبيا وجنوب السودان؛ فمن المعلوم أن أكثر من 85% من مصادر مياه النيل تأتى من إثيوبيا، وأن أية مشروعات للسدود هناك تؤثر، بالقطع، على حصة مصر من تلك المياه، وهكذا، تهدد إسرائيل التكامل الإقليمى على الحدود الشرقية، ومصادر المياه على الحدود الجنوبية، وقد يتصاعد التهديد إذا وصل نفوذها إلى الحدود الغربية. يضاف إلى ما سبق، أن المحاولات الإيرانية لإحياء الامبراطورية الفارسية، التى تمتد إلى دول الخليج خصوصا البحرين والكويت والإمارات وجنوب العراق، يشكل تهديدا ليس فقط للدور الإقليمى المركزى لمصر، ولكن أيضا للمصالح الاقتصادية والمالية المصرية فى دول مجلس التعاون، التى تتعلق بالعمالة المصرية والاستثمار الأجنبى المباشر، وهو ما يؤثر بالتبعية على الأوضاع الاقتصادية فى مصر، وينعكس بالضرورة على مفهوم العدالة الاجتماعية وجودة الحياة، والتى تشكل البعد الثانى للأمن القومى.
***
إضافة إلى ما سبق؛ فإن الأوضاع الداخلية الراهنة تضيف إلى مصادر تهديد الأمن القومى اليوم قبل الغد، فالصراع السياسى محتدم بين من ينتمون إلى النظام البائد من ناحية، وبين الذين ينتمون إلى التيار الدينى من ناحية أخرى مع تهميش متعمد لثوار مصر خصوصا الذين ينتمون إلى التيار الليبرالى، والمجموعة الأولى تحتمى ـ أو هكذا يرى المواطنون ـ بالمؤسسة العسكرية؛ فهم من أبنائها وقياداتها السابقة، والمجموعة الثانية تحتمى ـ أو هكذا يدعون ـ بالشرعية الدستورية، وقد أدى ذلك الاستقطاب إلى الانفلات الأمنى من ناحية، وتزايد الإحباط السياسى من ناحية أخرى، وتشير الخبرة السياسية التاريخية إلى أن الإحباط يعد أحد دوافع اللجوء إلى العنف الداخلى والانقسام والتجزئة، وفى الوقت الذى تشتعل فيه حملات الانتخاب الرئاسية فى الدول المختلفة بالمنافسة السلمية فى حدود القانون وقواعد الضبط العام، إلا أن ما يحدث فى مصر مختلف تماما، وبعيدا كل البعد عن أية تقاليد ديمقراطية؛ حيث يتربص المرشحون بعضهم لبعض، ويتوعد بعضهم بعضا، وتعالت صيحات الانتقام والقتل والدم، والغريب فى الأمر، أن الجميع يعلم أن شخصا واحدا فقط سوف يتم انتخابه رئيسا للدولة لمدة أربع سنوات؛ فهل يقبل الآخرون ذلك؟ خصوصا وأنهم قد قاموا بالفعل بتعبئة أنصارهم وتغذية مشاعرهم بوجود مؤامرة ما من أطراف داخلية، وأيادٍ خارجية، وهكذا، لم يعد صندوق الانتخابات هو المحك الرئيس لاحترام إرادة الناخبين لدى هؤلاء، بل صارت العداوة والبغضاء «بوصلة» الحياة السياسية، لقد تحولت المشاركة، وهى اختيارية طوعية، إلى تعبئة، وهى إكراهية إجبارية، خطيرة على الاستقرار السياسى.
ولم يشهد هذا السيناريو المعقد وجود طرف ثالث حريص على المصلحة القومية يتولى تقريب وجهات النظر وإقناع جميع الأطراف، وهم مواطنون وليسوا أعداء، حتى الآن، بأن يجلسوا معا ويتناقشوا، ويتنافسوا بشرف وأنفة؛ فقد كان يمكن للمجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يقوم بتلك المهمة التاريخية حماية للأمن القومى وإعلاء للاستقرار الداخلى، بيد أن ثقة المواطنين فى حياده تجاه مختلف الأطراف قد تآكلت بالتدريج المتصاعد منذ أحداث ماسبيرو، أما القوى الليبرالية والثوريون؛ فيشعرون بوجود توافقات أبعد ما تكون عن بناء مصر الجديدة، ولا تستهدف سوى مصالح فئات وجماعات وتنظيمات دون المصالح القومية العليا.
ويتشابك مع الصراع السياسى والتهديدات الخارجية تدهور الأوضاع الاقتصادية ليس فقط المتعلقة بالإنتاج والتصدير، وإنما أيضا المتصلة بما يمكن أن يطلق عليه الحصار الاقتصادى والمالى؛ فالفئات المحرومة تسعى للحصول على مستحقاتها، والدول الشقيقة شحيحة تماما فيما تقدمه، كما أن الدول الكبرى لم تقدم أية مساعدات أو حتى أية قروض حتى الآن، وصار قرار الدول الثمانى الكبرى بتخصيص 20 مليار دولار لتونس ومصر حبرا على ورق، وهكذا، يتعقد الوضع الاقتصادى؛ مطالب أكبر، وإنتاج أقل، استيراد أكبر، وتصدير أقل، دخل محدود من السياحة، الذى كان يمكن أن يصبح رهان الثورة الأعظم لو صارت الأمور ـ منذ البداية ـ بأسلوب مختلف يقوم على إصدار دستور يبنى للحياة النيابية الحقة. ومما لا شك فيه، أن مستوى المعيشة، ناهيك عن جودة الحياة، صار متدنيا بصورة تزيد من حدة عدم الرضا.
***
إن الترابط والتشابك بين هذه العناصر مجتمعة يعرض الأمن القومى المصرى للتهديد الآنى، ويستلزم بالضرورة الإسراع فى الانتهاء من المرحلة الانتقالية الأليمة، على أن يكون واضحا لأطراف الصراع الراهن، كافة، أن الأمر الآن يعنى الاختيار بين المصالح الشخصية والحزبية الزائلة من ناحية، والأمن القومى المصرى ـ وهو أبدى ـ من ناحية أخرى. إن الاختيار هنا يفرز بين من يريدون استغلال مصر، ومن يريدون مصلحة مصر، وهذا نداء لنا جميعا بالسعى إلى تحقيق الأمن القومى المصرى وحمايته بأرواحنا، كما كنا نفعل من قبل.