في المقال السابق تحدثنا عن الكتابة العلمية وصفاتها وأنواع الجمهور الذي يقرأ هذه الكتابة العلمية، في مقال اليوم نركز على الجمهور نفسه وكيف يقرأ كي يحقق أقصى استفادة. لنتوقف قليلا عند كلمة "استفادة"، قبل أن تقرأ أي شيء يجب أن يكون عندك هدف تريد تحقيقه من ما ستقرأه، هذا الهدف قد يكون مجرد التسلية وقد يكون معرفة حقيقة عن حدث معين أو شخص معين وقد يكون تنمية معلوماتك في تخصص ما، لكل هدف منهم طريقة معينة في القراءة والتحليل (فيما عدا القراءة لمجرد التسلية).
لنبدأ بالقراءة من أجل معرفة معلومات عن حدث معين، قد تظن أن مجرد قراءة ما حدث قد أعطاك المعلومة وهذا غير صحيح، إذا أردت أن تقرأ بطريقة علمية وتفكر بطريقة نقدية فيجب أن تسأل نفسك: هل ما حدث يمكن تصوره؟ يعنى أنه لا يدخل في عداد المستحيلات، وإذا كان يمكن تصوره فهل مصدر المعلومة يعتبر مصدر موثوق فيه (مجلة علمية مرموقة مثلا)؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب عن السؤالين السابقين فما الذي يمكن أن يكون قد أدى إلى هذا الحدث ومهد له الطريق؟ ما هي الدلائل التي تؤيد صحة هذه المعلومة؟ وما هي تداعيات هذا الحدث؟ ومن هو المستفيد من هذا الحدث؟ هل يؤثر هذا الحدث على شخصيا؟ وإذا كانت الإجابة بنعم فما هو أفضل ما يمكن أن أفعله؟ ما هي الدروس المستفادة من هذا الحدث؟ هل يمكن أن تكوم هذه المعلومة كاذبة حتى وإن كانت ممكنة التحقيق؟ وإن كان ذلك ممكنا فمن له المصلحة في ذلك؟
قد تقول: "ولكن هذا مرهق جدا ويجعل القراءة بطيئة بل ومملة في بعض الأحيان، هذا قد يكون صحيحا ولكننا اتفقنا أننا في هذا النوع من القراءة لا نقرأ للتسلية بل للتعلم ولسنا في مسابقة لمن يقرأ أكثر ولكن لمن يقرأ أعمق. دعنى أعطيك مثالا عن أهمية هذا النوع من التفكير العلمي أثناء القراءة، كلنا سمعنا وسنظل نسمع أننا يجب أن نقرأ التاريخ ونتعلم منه لكن هل فكرنا في الكيفية التي نتعلم منها من التاريخ؟ إنها عن طريق الإجابة عن الأسئلة السابقة وتحرى الدقة في الإجابة، هناك كتاب مهم نشر في نهاية الثمانينات من القرن الماضى بعنوان (Thinking in Time: The Use of History for Decision Makers) أو "التفكير في الوقت المناسب: استخدام التاريخ في مساعدة صانعى القرار" لمؤلفين من جامعة هارفارد هما ريتشارد نيوستاد وإرنست ماي (Richard E. Neustadt andErnest R. May)، هذا الكتاب يشرح كيف نتعلم من التاريخ ونستخدم ذلك في اتخاذ القرارات، هذا الكتاب وإن كان موجها لصانعي القرار إلا أنه يشرح ببراعة القراءة العلمية للتاريخ والأحداث السياسية.
أما إذا كنت تقرأ لتنمية معلوماتك في تخصص ما (ويدخل في ذلك قراءة الأبحاث العلمية للمتخصصين ولكننا لن نناقش ذلك بالتفصيل في هذا المقال) فأهم شيء أن تعرف كيف تضع هذه المعلومة الجديدة في مكانها الصحيح وسط المعلومات التي تعرفها من قبل، التعلم يأتي من تراكم المعلومات بطريقة منطقية في عقلك وليس مجرد تراكم المعلومات في عقلك، من أهم الأسئلة التي تسألها: "ما السؤال التي تحاول هذه المعلومة الإجابة عنه؟ ما هي الدلائل على صحة المعلومة؟ ما هي النتائج المترتبة على صحة هذه المعلومة؟ ما هي الأسئلة التي تثيرها هذه المعلومة الجديدة؟"، هذا السؤال الأخير مهم جدا ولابد له من إجابة لأنه إذا كانت الإجابة صفر فهذا معناه أنك لم تتعمق بما يكفي في هذه المعلومة، كلما كثرت أسئلتك كلما كنت أكثر عمقا وعلما.. هناك كتاب بعنوان (How to Solve It?) أو "كيف تحلها" لجورج بوليا (George Polya) أستاذ الرياضيات بجامعة ستانفورد وهو يشرح بعمق شديد وسهولة شديدة في نفس الوقت كيفية التفكير للوصول إلى حل لمشكلة ما، هذا الكتاب وإن كان يتخذ الرياضيات مثالا إلا أنه يمكن تطبيق تعاليمه على أي علم من العلوم، هذا الكتب ظهرت طبعته الأولى عام 1949 وما زال يطبع حتى الآن لأهميته الكبرى.
درب نفسك على هذه الأنواع من القراءة، سيكون الأمر صعبا في البداية ولكن فوائده ستظهر في زيادة عمق معلوماتك وتحسن تفكيرك التحليلي والنقدي وتحسن قدرتك على التفريق بين ما هو علمي وما هو شبه-علمي ولكنه تافه وغير ذي قيمة.