دائرة النار - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الأربعاء 27 نوفمبر 2024 3:39 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دائرة النار

نشر فى : الخميس 31 يناير 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 31 يناير 2013 - 8:00 ص

فى هذه الأيام منذ أكثر من سبعين عاما كانت مدن القناة تقوم بدور الطليعة فى مقاومة الاحتلال البريطانى الذى جثم على صدر مصر لأكثر من سبعين عاما. كانت الإسماعيلية ممثلة فى شرطتها وأبنائها تخوض معركة الكرامة الوطنية ضد القوات البريطانية على الرغم من الخلل الفادح فى ميزان القوى بين هذه القوات وقوات الشرطة المصرية التى قاومت بشرف لآخر طلقة، فخرجت من المواجهة مرفوعة الرأس بشهادة الأعداء قبل الأصدقاء، وكانت هذه المعركة واحدة من التطورات التى أحدثت هزة عميقة فى جهاز الشرطة الوطنى، وتظاهر رجال الأمن لأول مرة احتجاجا على تركهم فريسة للعدو دون تسليح كافٍ، وفى الوقت نفسه كانت المقاومة الشعبية مشتعلة ضد المحتل فى بورسعيد والسويس وجوارهما القريب. وفى عدوان 1956 الثلاثى على مصر الذى كان يهدف إلى كسر إرادتها الوطنية لا يمكن لأحد أن ينسى دور «بورسعيد» التاريخى فى صد العدوان الذى عانت المدينة بسببه من دمار هائل تلاشت مرارته بزيارة عبدالناصر لها بعد التحرير. ثم تحملت مدن القناة الثلاثة عواقب هزيمة 1967، فكانت هدفا للضربات الانتقامية لإسرائيل بمجرد تأكدها من أن مدن القناة ومن خلفها مصر كلها وزعيمها ترفع رايات المقاومة لا للاستسلام، وتحمل أبناؤها عبء التهجير وآلامه منذ وقعت الهزيمة وحتى حرب أكتوبر 1973 التى قام فيها أبناء السويس بدور بطولى فى صد المحاولة الصهيونية لاحتلال مدينتهم فى أعقاب حدوث الثغرة الشهيرة.

 

•••

 

ما الذى حل بنا فى هذه العقود حتى وصلنا إلى الموقف الراهن الذى تدخل فيه قمة السلطة مع هذه المدن ذات الدور الاستثنائى فى التاريخ المصرى فى تحدٍ صارخ عبر عنه رئيس الجمهورية فى خطابه الأخير؟ كان التمنى أن يكون الاحتفال بالعيد الثانى للثورة احتفالا بإنجازاتها فى عامين، لكن الأمر تحول إلى ما نراه الآن: إعلان السخط والرفض بديلا عن الاحتفال بالإنجازات، وجماعة سياسية منقسمة على نفسها بديلا عن وحدة القوى الشعبية والسياسية فى يناير 2011، وجماهير تلجأ للعنف فى مقابل شعار «سلمية...سلمية» الذى ميز الأيام الخوالى فى ذلك التاريخ، فما الذى حدث؟ تقول جماعة «الإخوان» وحكومتها وحلفاؤها من الأحزاب الدينية إن هذه أعمال عنف وبلطجة ينبغى التصدى لها. ومن المؤكد أن أعمال العنف التى نراها الآن يشارك فيها «بلطجية» مأجورون أو يعملون لحسابهم الخاص، لكن حركات المعارضة السياسية لا يمكن ــ وفقا للخبرة التاريخية والشواهد المتاحة لنا ــ أن تستند إلى البلطجية فحسب أو حتى أساسا، وبذلك يبقى السؤال معلقا: من الذى وصل بتلك الجماهير إلى حالة العنف الغاضب التى تمر بها الآن؟ يقولون إن هذه الجماهير تأتمر بأوامر «جبهة الإنقاذ» و«حزب الدستور»، ولا أظن أن أحدا يختلف على أن سطوة تلك الصيغ التنظيمية على جماهير العنف محدودة إن لم تكن غائبة، حتى وإن حدث اتفاق فى الهدف بين الطرفين.

 

•••

 

قل انظروا فى أنفسكم إن كنتم تريدون إجابة صادقة للأسئلة السابقة. ألم تسعدوا كثيرا بقدرة شبابكم على تطويق «مجلس الشعب» يوما لمنع الدخول إليه أو الخروج منه إلا لمن شئتم متجاوزين بهذا سلطات الدولة، ألم يقم هؤلاء الشباب بما سوف يبقى فى التاريخ المصرى جريمة شنعاء لا يمحوها الزمن وهو حصار مقر المحكمة الدستورية العليا حتى لا يستطيع قضاتها أن يعقدوا جلساتهم، ويتحدوا بذلك الإعلان اللا دستورى المشئوم الذى حصن به رئيس الجمهورية كافة قراراته من الرقابة القضائية ومنع المحكمة من النظر فى قضايا مفصلية كدستورية تكوين مجلس الشورى والجمعية التأسيسية التى وضعت الدستور لاحقا؟ ألم يهاجم مسلحوهم الشباب والمتظاهرين أمام «قصر الاتحادية»، فسقط من سقط من الشهداء والمصابين؟ غير أعمال «الأسر» والتعذيب التى جرت للخصوم داخل أسوار القصر؟ ألم يحاصر حلفاؤهم «مدينة الإنتاج الإعلامى» رفضا للدور الذى يقوم به عدد من الفضائيات فى انتقاد تصرفات السلطة فيما تركت القنوات التى تتستر وراء الدين تنضح بكل ما هو بذىء فى وصف الخصوم والتحريض عليهم؟ ألم يذبح هؤلاء «العجل» ويعلقوا رأسه عاليا وإلى جوارها صور «للمطلوبين» من رجال الإعلام وتهديدا لهم بالمصير ذاته؟ ألم ينتقل هؤلاء بعدها إلى محاولة حرق مقر الوفد ثم إلى مدينة الإسكندرية دفاعا عن الشيخ الذى حاصره المتظاهرون قبل أسبوع داخل المسجد لفجاجته فى الانحياز «للإخوان»؟ غير أن عنفهم فى هذه المرة أثمر عنفا مضادا، فإذا بهم يدركون أنهم ليسوا الأسد الوحيد فى الغابة. ألم تمر كافة الأعمال السابقة وغيرها الكثير دون أدنى حساب من السلطات كدلالة لا تخطئها العين على رضاها عما يحدث؟ وبعد ذلك كله يتحدثون عن عنف وبلطجة وقوى تقف وراءهما.

 

•••

 

بلغت الأزمة مبلغها وخرجت حتى كتابة هذه السطور عن نطاق السيطرة، ومع ذلك فقد كشفت التطورات عن إدارة هزيلة للأزمة تذكر بما فعله النظام السابق. فى البدء كان الصمت ربما تعبيرا عن الاستخفاف ومعه استخدام أدوات الدولة فى مواجهة المتظاهرين، وبعد مضى وقت ثمين خرج رئيس الجمهورية بخطاب إلى الشعب يخلق له من المشكلات أكثر مما يحل. شدد الخطاب على ضرورة احترام أحكام القضاء (يقصد فى مذبحة استاد بورسعيد)، وهو أمر جيد لولا أن رئيس الجمهورية كان على رأس الذين ضربوا بأحكام القضاء عرض الحائط غير مرة فى أمور أساسية، كما فى محاولة تحديه الفاشلة حكم المحكمة الدستورية العليا القاضى بحل مجلس الشعب ومنعه هذه المحكمة من استمرار النظر فى دستورية تكوين مجلس الشورى والجمعية التأسيسية لوضع الدستور، وكذلك لولا أن رئيس الجمهورية لم يستطع أن يضع ضرورة احترام أعمال القضاء فى إطار سياسى تصالحى، بل لعله لم يفكر فى هذا أصلا. ثم وصف الخطاب المتظاهرين بأنهم يقومون «بثورة مضادة»، وهو حكم غير صائب حتى وإن شارك بعض البلطجية هنا وهناك فى أعمال العنف، ولا يوجد حاكم ذو خبرة يسم شعبه أو المحتجين منه على الأقل بأنه يمارس سلوك «الثورة المضادة» حتى ولو كان هذا صحيحا. ثم علت نبرات رئيس الجمهورية وهو يذكر بأنه كان دائما ضد الإجراءات الاستثنائية إلا إذا اضطر إلى ذلك، وها هو يفعل، وفى هذا الإطار أعلن حالة الطوارئ لمدة ثلاثين يوما فى مدن القناة وحظرا للتجوال من التاسعة مساء إلى السادسة صباحا طيلة مدة حالة الطوارئ، وهو أسلوب ثبت عقمه فى تجارب سابقة طالما أن جيش مصر الوطنى لن يطلق رصاصة واحدة فى صدور المتحدين للحظر، وكان الأولى برئيس الجمهورية أن يقى نفسه حرج انتهاك المزيد من قراراته وتحديها. الأكثر من هذا أنه وعد بالمزيد إن رأى ضرورة لذلك.

 

•••

 

لا تورد الإبل هكذا فى إدارة الأزمات، وإنما يحتاج الأمر قبل كل شيء إلى إطار سياسى، والمشكلة أن الإطار السياسى السليم فى حالتنا يتطلب مراجعة حقيقية لأسلوب «الإخوان» فى الحكم، فلا فائدة طالما أنهم ينظرون إلى الحكم باعتباره «غنيمة» وليس عملية سياسية قد يكون لهم فيها النصيب الأوفى بحكم «ديمقراطية الصناديق» غير أنهم لابد أن يشركوا ــ خاصة فى هذه المرحلة ــ كافة القوى السياسية الأخرى أو على الأقل أهمها بحسب وزنها فى عملية صنع القرارات واتخاذها، كما أن الأصوات قد بحّت كى يكون رئيس الجمهورية رئيسا لمصر وليس عضوا فى جماعة «الإخوان المسلمين» لا يقدم على إغضابها أبدا، وفى هذا الإطار السياسى يمكن أن تجىء أى إجراءات للإدارة التكتيكية للأزمة. كذلك يتعين على «الإخوان» أن يتعاملوا على نحو ملح من خلال حكومة تعكس هذا الإطار مع قضيتى العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية اللتين لم يحدث فيهما أدنى تقدم يتناسب مع ثورة يناير العظيمة وأهدافها. وإن لم يحدث هذا فقد لا يواجه «الإخوان» فى المرة القادمة «ثورة مضادة» قوامها البلطجية وأعمال العنف كما يعتقدون، وإنما ثورة جياع ومهمشين لا تبقى ولا تذر.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية