قبل أيام كنت مرافقاً لوفد من المثقفين والصحفيين المصريين في زيارة لأرمينيا، وتزامن ذلك مع احتفال أرمينيا بالعيد الحادي والعشرين لاستقلالها عن الاتحاد السوفيتي، وأرمينيا دولة صغيرة وجميلة، لها تاريخ طويل وامتداد حضاري عميق، تجمع بين الشرق والغرب، لكنها تتفرد بروحها التي تعشق الموسيقى والشعر والعمارة والكتاب. ورغم المعاناة الاقتصادية التي يعيشها الشعب الأرميني منذ الاستقلال، إلا أنه لفرط ودّ وطيبة وسلام مع الذات، يعبّر في فنونه ونصوصه وحتى أسماء الأماكن عن روحه المتفائلة التي تحب الحياة، فالموسيقى والرقصات لا تستعير الحزن، بل تشف عن جمال يردد صدى الحب، وصوت السنونو.
خلال الزيارة التقينا بوزيرة الثقافة، وممثلين عن وزارة الاقتصاد، ونائب وزير الخارجية، وعدد من رموز المعارضة على رأسهم وزير الخارجية الأسبق رافي هوفنسيان، وحضرنا إحدى جلسات البرلمان، واختمت اللقاءات الرسمية بلقاء امتلأ بالمودة مع بطريرك الأرمن الأرثوذكس كاركين الثاني.
لم تقف الزيارة عند حد اللقاءات الرسمية فقط، فقد قمنا بزيارة كلية الدراسات الشرقية بجامعة يريفان الحكومية، ومعهد التاريخ ومعهد الاستشراق التابعان لأكاديمية العلوم بجمهورية أرمينيا، والتي تدرس تاريخ الشرق القديم والدراسات التركية، والشرق المسيحي، والشرق الأقصى، والبلاد العربية، إلى جانب اللغات العربية والفارسية والتركية ولغات شرقية أخري.
وتسنى لنا خلال الزيارة والرحلات إلى المتاحف والمعابد والكنائس، معرفة قيمة الكتاب ومكانته في الثقافة الأرمينية التي حاكت حوله القصص والأساطير، وربما يأتي مثل هذا الاهتمام لإحساسٍ بالخوف على الذاكرة التي تعرضت لمحاولات المحو والإلغاء وقت المذبحة التي ارتكبها الأتراك تجاه الشعب ألأرمني، وفي مثل ذلك تغدو الكتابة نوعاً من الدفاع عن الذات و«النضال ضد الموت»، والكتاب في مثابة الصورة التي تدون الذات.
ولفرط اهتمام المدينة بالكتاب، اختارت أجمل الأماكن المطلة لإقامة متحف المخطوطات الذي يمثل آية في العمارة والفن، وهو يمتد على مساحة 12 ألف متر مربع، ويحتوي على كنوز ثمينة في جميع لغات العالم القديمة والحديثة، ومنها مخطوطات عربية نادرة في مختلف الفنون. وقد صُمم المتحف لحفظ الكتب ونجاتها حتى في ظل حرب نووية، حيث تهبط الكتب إلى «قاصات» تحت الأرض. رمزية الكتاب في ثقافة أرمينيا تعادل النفس والولد والذاكرة والحياة، فالأمهات اللواتي أُجبرن على اللجوء تحزمن بقماش حول أجسادهن، ووضعن أطفالهن على صدورهن والكتب على ظهورهن.
الكتاب بالنسبة لأرمينيا هو كينونة تشتمل اللغة والهوية، ومما يُروى أن إحدى الأمهات لم تستطع -لكبر حجم الكتاب- أن تحمّله لواحدة من ابنتيها الصغيرتين، فاضطرت لقسمته إلى نصفين، وفي رحلة النفي والهجرة ضلّت كلٌّ من الفتاتين طريقها، وبعد وقت طويل، اهتدت إلى شقيقتها بنصف الكتاب. ربما تنطوي الحكاية على كثير من المحمولات، لكن الرمزية الأساس تقول: من يملك المعرفة لا يمكن أن يضلّ طريقه. يقال: إذا أردت أن تعرف شعباً، سافر إلى عقله.