كنت أجلس إلى جدتي في ليالي الشتاء الباردة ، أستمع إلى حديثها المؤنس الذي يبعث الدفء في حنايا النفس، أنظر إلى عينيها اللتان تختصران كل خبرات السنين وتجاربها في لمعة لما تزل رغم تقوس الظهر، كان صوتها المتهدج يبعث في وجداني روحاً تستشرف المستقبل بعيون من الأمل المتلفع برداء من البراءة والنقاء، كانت حكاياها عوالم متجددة من الحكمة، والخبرة، والروعة، وبعضاً من فلسفات غير متكلفة.. كانت حكاياها مزيج من عوالم الإدراك وعوالم الغيب.. كانت تربط بين عالمي الواقع والخيال بجسر ليس غريباً على كلٍ من العالمين، كانت لي مرجعاً لكل تساؤلات الطفولة البريئة، كانت كل الإجابات الصعبة عندها بقدر من اليسر المستحيل على غيرها ممن أعرفهم.
ففي خيال جدتي كانت تنام الأميرة الجميلة، وفي خيال جدتي يعيش الشاطر حسن، وست الحسن والجمال، وفي خيال جدتي تسبح عروس البحر، وتعيش عوالم من الملائكة والجن، وبين كفي جدتي كانت تنبت الأماني، وتخضرُّ الأحلام، وفي حجرها كنت أجد كل الأخبار، وأسافر معها كل الأمصار. كانت جدتي لي كل شيء وفجأة.. ماتت جدتي.
أجدبت من حولي الدنيا، أحسست بوحشة لن يملأها أحدُ بعدها، رحت أتلمس آثارها، فتشتُ في صندوقها الخشبي الذي ما كان يجرؤ أن يقترب منه أحد، كانت تضحك عندما نسألها عن ذلك الصندوق وتجيب: "ده يا بني صندوق الدنيا.. كان فيه كل جهاز جدتك".
تحسست بأصابعي جسماً خشبياً داخل الصندوق
- يا إلهي.. ما هذا؟ إنه مذياع جدتي القديم!
يا للروعة.. شكله رائع.
كثيراً ما كانت تنفرد جدتي به وتضعه في حجرها وتنصت بشغف إليه. كنت أسأل نفسي كثيراً: "أتلك التي نُصغي جميعاً إليها وإلى حديثها.. تصغي هي - حين تكون وحدها - إلى ذلك المذياع الخشبي القديم؟!"
لمستُ ذر التشغيل فانبعث صوت هادئ حنون، مختلطاً بنغمات موسيقية عذبة لها في النفس سحرٌ لا يُقاوَم بدَّد كثيراً من وحشتي. أدرتُ مؤشرُ المحطات، فوَلَجَ بي إلى عوالم من السحر، والدهشة، والجمال، سافرتُ مع هذا المؤشر إلى أرض الخيال.. أخذني إلى حيث كانت تأخذني حكايا جدتي وقصصها، نَثَرَني في كل حقول الأرض، جعلني أمتطي صهوة الأثير، وأطوف به كل العالم، طوى لي هذا المؤشر أطرافَ الأرضِ جميعاً.. فصارت كل الدنيا بحوزتي، أصغر من حجم صندوق جدتي!