محمد عبد الباقي يكتب: عُرْس أذربيجان.. أقدم جمهوريات الشرق - منبر الشروق - بوابة الشروق
الإثنين 13 يناير 2025 8:02 ص القاهرة

محمد عبد الباقي يكتب: عُرْس أذربيجان.. أقدم جمهوريات الشرق

نشر فى : الأربعاء 29 مايو 2013 - 12:10 ص | آخر تحديث : الأربعاء 29 مايو 2013 - 12:10 ص
محمد عبد الباقي
محمد عبد الباقي

في الوقت الذي كان الشرق يدين فيه لنظم حكم تتسم بالفردية، أو الشمولية أو الديكتاتورية، كانت أذربيجان تخط أولى سطور الديمقراطية القائمة على التعددية، في بلاد الشرق والعالم الإسلامي كله، وتؤسس لدولة تسود فيها روح الإخاء، والمساواة، وحقوق الإنسان، وتستشرف المستقبل بوعي الحاضر، وأصالة المنبع، المرتكزة على إحدى الحضارات الإنسانية القديمة.

 

فهذه الدولة التي عرفت الإسلام في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وانصهرت فيها ثقافات الفرس، والأتراك، والعرب، والعجم، قد شهدت ميلاداً متعسراً، في ظل ظروف، وملابسات دولية، شديدة التعقيد، والتداخل، نتجت عن تداعيات الحرب العالمية الأولى، وشيوع الفوضى، والصراعات العرقية، والأهلية، وانهيار الامبراطورية الروسية، وحالات التشظي تارة، والتجمع تارة أخرى، مما أدى إلى أن أصبحت أذربيجان جنباً إلى جنب مع أرمينيا وجورجيا جزءاً من الجمهورية القوقازية الاتحادية الديمقراطية.

 

وبعد أن أُعلن حل تلك الجمهورية في مايو 1918، أعلنت أذربيجان استقلالاً باسم جمهورية أذربيجان الديمقراطية، وكانت تلك الجمهورية أول جمهورية برلمانية حديثة في العالم الإسلامي، ورفرف فوق ترابها علم الجمهورية ذو الألوان الثلاثة (الأزرق والأحمر والأخضر), مع الهلال والنجمة الثمانية الأطراف, في إشارة، ورمزية الي مبادئ الحداثة والإسلام والهوية الوطنية.

 

في هذه الفترة برز دور واحد من أهم زعماء أذربيجان المؤسسين وهو (محمد أمين رسول زاده)، الذي كان أول من نادى بأن تكون أذربيجان جمهورية ديمقراطية مستقلة، فقد كان لجهاده، ونضاله السياسي هو ورفاقه، دور كبير في أن تحصل أذربيجان على استقلالها في هذه الفترة.

 

كانت جمهورية أذربيجان المستقلة تخطو أولى خطواتها في تأسيس جمهوريتها الديمقراطية المستقلة، ورغم ذلك فقد حققت نجاحات على صعيد بناء الدولة، والتعليم، وإنشاء الجيش، والاستقلال المالي، والاقتصادي، والحصول على الاعتراف الدولي بالجمهورية، بحكم الأمر الواقع بانتظار الحق القانوني حيث أسست علاقات دبلوماسية مع عدد من الدول، كما أعدت دستورها المبني على تساوي الحقوق، وضمان الحريات، وحقوق الإنسان، والإخاء، والمساواة، والمواطنة القائمة على التسامح، والالتزام الوطني، والتعددية الحزبية، وكذلك إقرار مبدأ سيادة القانون، واحترام المواثيق الدولية، والتناغم الدولي.

 

ورغم حداثة الدولة، وبدايات التجربة، إلا أنها كانت أسبق من بعض الديمقراطيات العتيقة (كالولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا) فيما يتعلق بالمرأة، وحقوقها السياسية، ودورها في التنمية.

 

ولم تهنأ الدولة الوليدة باستقلالها طويلاً، حيث لم تدم سعادة الآذريين لهذا الأمر، سوى نحو العامين، ففي أوائل العام 1920م، يُصرِّح (فلاديمير لينين) بأن "روسيا السوفييتية لا تستطيع البقاء على قيد الحياة دون نفط باكو"، في رسالة واضحة تفيد بأن روسيا السوفيتية ستهاجم باكو!

 

وبالفعل يجتاح الجيش الأحمر السوفيتي البلشفي الأراضي الأذربيجانية، معلناً عن تأسيس جمهورية أذربيجان السوفيتية الاشتراكية في 28 أبريل 1920م، بعد معارك دامية مع جيش جمهورية أذربيجان الديمقراطية (حديث التأسيس)، الذي لم يستسلم بسهولة، بل قاوم الغزو ببسالة، وقدم خلالها أكثر من عشرين ألف شهيد أذربيجاني.

 

مرحلة الأحلام المؤجلة استمرت لنحو سبعة عقود، عاشها الشعب الآذري، تحت وطأة الحكم الشيوعي، الذي حاول صهر الشخصية المميزة للآذريين، في بوتقة اتحاد الجمهوريات السوفيتية، فشاعت الملكية، وشاعت الهوية، وضاعت الثروات في النعرات، ووضعت البلاد في مهب حروب عالمية، أو نزاعات إقليمية، وتحول نفط البلاد لوقود آلياتها العسكرية، في الحرب العالمية الثانية، وحارب نحو 800 ألف من الشباب الآذريين في تلك الحرب، قُتِلَ منهم فيها نحو نصفهم.

 

وسامت اليد الروسية الشيوعية، الشعب الآذري صنوف العذاب، والتنكيل والاضطهاد المنظم، وإثارة النعرات الطائفية، والعرقية، ونهب خيرات البلاد، وملاحقة الرموز القومية، وإضعاف الروح الوطنية.

 

وكما قيضت الأقدار للجمهورية الأولى زعيماً مثل (محمد رسول زادة)، فقد كانت الجمهورية الثانية على موعد مع زعيم قومي آخر، ساهم في قيامها، وتوطيد أركان استقلالها، ومن ثم بنائها، ونهضتها، وكان لابد لأذربيجان كي تنسلخ من الاتحاد السوفيتي، من قيادة تاريخية، تستطيع اتمام واكمال مسيرة الاستقلال بحكمة، وحنكة توافرت آنذاك في زعيمها المؤسس (حيدر علييف)، الذي أستطاع بخبرته السياسية الطويلة، أن يعيد الوعي القومي للشعب الآذري التوَّاق للحرية، والاستقلال، والنهضة.

 

كان (علييف) يدرك أن بلاده تمتلك مخزوناً هائلاً من النفط والغاز، والموارد الطبيعية التي لا تحتاج إلا إلى إدارة جيدة لتلك الموارد، فأعاد ( حيدر علييف) صياغة المنظومة الاقتصادية، والسياسية الأذربيجانية على أسس هيكلية جديدة، تضمن النمو الاقتصادي المتسارع، والذي تزامن بدوره مع برنامج إصلاح عام وشامل، بدأ منذ توليه السلطة عام 1969م.

 

بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991م، وتعاظم الدور الوطني لـ(حيدر علييف)، وحصول أذربيجان على استقلالها، وإعلان جمهوريتها للمرة الثانية، كان للأحلام القديمة المؤجلة أن تتجدد على يد مؤسسها الثاني، وكان للآذريين ان يستنهضوا مجدهم، ويشحذوا هممهم، فأحلام الأمس لديهم، لم يعد هناك ما يمنعهم لأن يحولوها إلى حقائق اليوم، فأرض النار لم تزل تسبح على بحر هائل من النفط والغاز، مما حدا بكبريات الشركات العالمية لصناعة النفط، أن ترتبط بعقود جبارة مع الحكومة الأذربيجانية، مما دفع البعض لأن يطلق على باكو ( الأمم المتحدة لصناعة النفط).

 

ولقد شهدت أذربيجان طفرة كبيرة فيما يتعلق بالنشاط الدولي كعضو أممي ناهض، ينتظم في منظمة الأمم المتحدة، والمنظمات الفرعية، والبرلمان الأوربي، وكثير من المنظمات الإقليمية، والدولية، وانتهجت في ذلك سياسات تتسم بالاستقلال، والحيادية الموجبة، واحترام حق الشعوب في تقرير مصيرها، وعدم التدخل في الشئون الداخلية لأي من دول العالم، وكذا حسن الجوار.

 

وفي مجال بناء الإنسان الآذري، وإحياء الروح الوطنية، والوعي القومي، والهوية الإسلامية له، تشهد أذربيجان جهوداً كبيرة في هذا المجال، إذ تتضمن خطط الثقافة، وخطط التعليم، والإعلام ما يعزز انتماء هذا الشعب لدينه، وتقاليده، وتراثه الأصيل، ويحيي فيه جوانب الخير، في العقيدة، وفي الأخلاق، إذ تم افتتاح العديد من المدارس والمعاهد الإسلامية الجديدة وتم بناء العديد من المساجد، وتشهد البلاد عملية إحياء واسعة لبعض المناطق الغنية بآثار الحضارة الإسلامية، وكذلك ترميم كل المساجد القديمة والمباني الأثرية الإسلامية، وترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الأذربيجانية، ونشر الكثير من الكتب الإسلامية والإصدارات الدورية الأخرى وبدأت البرامج الإسلامية تبث بالراديو والتلفزيون، وقد بدأ لأول مرة منذ سبعين سنة الاحتفال والاحتفاء بكل الأعياد والمناسبات الدينية على مستوى الدولة والشعب.

 

وعلى الصعيد العام، استطاعت أذربيجان أن تسترجع ذكريات جمهوريتها الأولى، وتتجدد في 28مايو من كل عام ذكرى الاستقلال، وأحلام النهوض، فتزداد معدلات الناتج المحلي الإجمالي كل عام، وتنخفض بشكل مضطرد نسبة الفقر، وازدياد كبير في احتياطي النقد الاجنبي، وتطوير الصناعة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ويسعى الآذريون بشكل واضح، وبإصرار وعزيمة قوية لوضع أذربيجان، في مصاف الدول المتقدمة، كخيار قومي، وهدف استراتيجي، سعى المؤسسون الأولون لتحقيقه، فجاءت أفواج الآذريين على خطاهم، تستلهم تجاربهم، وتحقق أحلامهم.

 

وليحققوا قول الشاعر فيهم :

بلاد أذَرْبِيجانَ في الشرق عندنا ... كأندلس بالغرب في العلم والأدب

فما إن تكادُ الدهرَ تلقى مميزاً ... من أهليهما إلا وقد جدَّ في الطلب

شارك بتعليقك