عشية تسلّم الرئيس محمد مرسى لمسودة الدستور المصرى وفى خطاب الدعوة للاستفتاء عليه حدد الرئيس المصرى القادم بعد الثورة، ثلاث ركائز للديمقراطية التى خرجت الثورة المصرية لتحقيقها كأحد أهدافها الرئيسية، وهى القضاء والإعلام والمجتمع المدنى. وفى هذا السياق خرجت علينا الحكومة المصرية بمشروع قانون جديد للجمعيات والمؤسسات الأهلية، أقل ما يمكن وصفة بأنه نموذج للقوانين القمعية والتى تعيد إنتاج السلطوية. يروّج له ويتبناه نفس المستشار داخل وزارة التضامن الاجتماعى الذى فشل فى تمرير هذا القانون فى عهد مبارك، وفى ظل سلطة المجلس العسكرى. وإذا كان يتم تحديد ملامح سلبية للقانون المصرى 84 لسنة 2002 للمجتمع المدنى والمعمول به حتى الآن فى مصر وتتمثل فى ثلاث: إعطاء السلطة حقوق شبه مطلقة، تغليظ العقوبات وإفراط القانون فى التجريم والعقاب، المصطلحات الغامضة والعبارات المفتوحة تمكّن الحكومة من تطبيق القانون فى التوقيت الذى ترغبه على المنظمة التى تستهدفها. فالمشروع الجديد يضيف لها سبع سمات جديدة: قدر كبير من عدم المعرفة بطبيعة ودور المجتمع المدنى، إجراءات تؤدى لتقييد العمل المدنى بشكل غير مباشر، عبارات ومصطلحات تؤدى لتقييد العمل المدنى بشكل مباشر وتخالف مبادئ الديمقراطية والتعددية، تقنين للتدخل الأمنى فى العمل الأهلى وغياب آليات للشفافية وتداول المعلومات والمشاركة المجتمعية وسيطرة ذهنية مريضة بنظرية المؤامرة والثقافة السلطوية وتوسيع صلاحيات جهات غير معنية.
●●●
يقتصر تعريف العمل الأهلى فى تعريفه على الأهداف الإنسانية والتنموية دون الحقوقية والتى تعّد هدفا أساسيا، بل فى مناهج عمل المجتمع المدنى الحديث يعد المنهج الذى تنتهجه حتى المؤسسات ذات الأهداف الإنسانية والتنموية إذ ترتكز فى عملها على تمكين المواطنين من الوصول للحقوق وليس المنهج الخيرى الذى عفى عليه الزمان. وفى هذا القانون تستخدم العوائق المالية بوضوح ففى تعريف المؤسسة فى المادة (1) يخصص المؤّسسون ما لا يقل عن مائتين وخمسين ألف جنيه عند التأسيس ثم يحول هذا المبلغ إلى مال عام فى المادة (3) هو حجر على تأسيس مؤسسات خاصة إذ رغبت مجموعة من الفئات المهمّشة القيام بذلك، وهنا يظهر تمييز واضح على أساس طبقى. كما أنه من المعروف أنه فى ظل القانون (84) أن الأمن كان المسئول الرئيسى فى التعامل مع المؤسسات خلال فترة التسجيل وكان يضغط لتسجيل المؤسسات كجمعيات وذلك لإمكانية مراقبتها والسيطرة عليها أكثر من المؤسسات. كما نرى تلاعب بالمصطلحات لوضع مسحة ديمقراطية على آليات قمعية مثل تسجيل الجمعيات بالإخطار فى المادة (6) والتى يعود ويقرر حق امتناع السلطة عن القيد خلال 60 يوما، وعلى المؤسسين آنذاك اللجوء للقضاء، أى أنه فى الممارسة العملية يحول الإخطار إلى تصريح، وعلى أرض الواقع تكون الإجراءات ذاتها هى التى تتم فى ظل القانون الحالى وهى محط اعتراض المنظمات والخبراء فى هذا المجال.
كما يخالف هذا القانون بوضوح مفهوم حرية التنظيم، حيث يوحّد الاتحادات ويمنع تعدديتها، ويجبر المنظمات على الانضمام لها بشكل إجبارى ويفرض عليها رسوم عضوية محددة. وتتنوع هيمنة السلطة المتمثلة فى وزارة الشئون الاجتماعية منذ التأسيس وحتى النشاط مرورا بالهيمنة الإدارية والمالية. ويبرز هنا تقنين للتدخل الأمنى فى العمل الأهلى فى المادة (57) الخاصة بـ«إنشاء لجنة تنسيقية للبت فى كل ما يتعلق بنشاط المنظمات الأجنبية غير الحكومية فى مصر والتمويل الأجنبى» وهذه اللجنة تقحم جهات أمنية واستخباراتية فى الرقابة والتحكّم فى المجتمع المدنى، وهو ما يدخل الحكومة كطرف فى السيطرة على المنظمات لتتحول كافة المنظمات غير الحكومية المصرية NGO إلى منظمات حكومية غير حكومية GNGO. وإمعانا فى السلطوية تتشكّل هذه اللجنة دون أى مشاركة من المجتمع المدنى حتى عبر الاتحادات غير الحرة التى نص عليها هذا القانون، وهذا مخالف لمفهوم المجتمع المدنى الذى يطلق عليه القطاع الثالث بمعنى استقلاليته وانفصاله عن القطاع العام والقطاع الخاص. كما يظهر ذلك فى تقييم الاتحادات للمنظمات «وما حققته من خدمات للمواطنين أو من برامج التنمية التى تضعها الدولة» أى ان منظمات المجتمع المدنى لا تعمل باستقلالية وإنما تتبع برامج تحددها لها الدولة.
وكعادة المشرّع السلطوى يضع فى قانونه عبارات غير منضبطة أو محددة على غرار «مقرا ملائما»، وحقوق للجهة الإدارية «إذا رأت ضرورة لذلك». ومراعاة النظام العام» و«الإخلال بالسيادة الوطنية» ومفهوم السيادة دون ضبطه لا يمكن تفسيره بشكل واضح فالنظام السورى يقدم له تعريفا مختلف تمام عن الفرنسى على سبيل المثال.
●●●
يعكس هذا القانون سيطرة ذهنية مريضة بنظرية المؤامرة والثقافة السلطوية كلما تعلق الأمر بالمنظمات الأجنبية أو أى شكل من أشكال التعاون بين مؤسسات المجتمع المدنى فى مصر والمجتمع المدنى العالمى. كما أن هناك مواد تعبّر عن الذهنية السلطوية التى تقوم على مفهوم «ان الحكومة تعرف مصلحتك أكثر منك وعليها أن تخبرك ما يجب عليك فعله» مثل المادة (68) والتى يجعل للاتحاد الإقليمى تنفيذ السياسات العامة التى يضعها مجلس إدارة الاتحاد العام للجمعيات والمؤسسات الأهلية». كما أنه يمكنها حل المنظمة التى لا تتمكن من تحقيق مصلحتها بناء على تقدير السلطة وليس الجمعية العمومية للمنظمة فى المادة (42). ناهيك عن تغليظ العقوبات وتوسيع صلاحيات وإعطاءها لجهات ليست ذات طبيعة ملائمة مثل حق الضبطية القضائية لموظفين بيروقراطيين كما فى المادة (20) كما نرى فى عبارات وتوصيف دخول وتفتيش المقرات هى أشبه بعملية اقتحام أو مداهمة، ويبدو أن من صاغ هذه العبارة هو ضابط أمن وليس مشرع قانونى. ثم يتم توسيع نطاق القانون ذاته عبر الرقابة التعسفية ليشمل كيانات غير مندرجة تحت هذا القانون والمقصود بها بوضوح منظمات حقوق الانسان التى يمكن أن تسجل كشركات قانون تعمل بالمحاماه. ثم تتطور فى المادة (80) لنصل إلى عقوبات سالبة للحرية لا تتناسب مع طبيعة العمل التطوعى، ورغم كل القيود الواردة فى هذا القانون فإن فلسفة الافصاح فى هذا القانون ليس بغية الشفافية أو الرقابة المجتمعية أو المحاسبية، إنما السيطرة على المجتمع المدنى وليس زيادة المشاركة المجتمعية عبر تفعيل الرقابة الشعبية كأحد دعائم الديمقراطية فهو بالتأكيد ليس هدفا من أهداف المشرع القمعى.
●●●
إن حرية المجتمع المدنى أصبحت جزءا أساسيا من مؤشرات قياس مستوى الديمقراطية فى أى دولة، كما كان المجتمع المدنى فى تجارب التحول الديمقراطى الحديث هو أحد دعائم هذا التحول. وإذا كان لنا أن نصل إلى قوانين تساهم فى تحول ديمقراطى لا العودة إلى نظام سلطوى شمولى فلابد الخروج من هذه الذهنية السلطوية والابتعاد عن رموزها عند صياغة قوانين مصر الثورة.
مدير منتدى البدائل العربى للدراسات