الكتب للعقول.. وللقلوب أيضا - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 5 ديسمبر 2024 5:22 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الكتب للعقول.. وللقلوب أيضا

نشر فى : الأربعاء 18 فبراير 2015 - 11:30 ص | آخر تحديث : الأربعاء 18 فبراير 2015 - 11:30 ص

إبهار وفضول وألفة وفخر وهدوء، كلها علامات نراها على وجوه مرتادى معرض الكتاب، ومتسوقى الكتب فى المكتبات الخاصة، وزوار المكتبات العامة، علامات لا نراها على وجوه مرتادى ومتسكعى المولات وشوارع وسط القاهرة.

•••

الكتاب ليس سلعة، ولن يكون. وللكتاب عند الكثيرين مكانة خاصة واحترام حتى عند هؤلاء الذين توقفوا عن حيازته أو حمله أو التعامل معه. لا أتحدث هنا عما رأته عيناى فى معرض القاهرة للكتاب، أو فى غيره من المعارض ذات الشهرة العالمية، إنما أتحدث عن تجربة خاصة عشتها وأنا شاب صغير وعن تجارب عديدة مع رواد مكتبات خاصة وعامة فى الهند والصين وفى الأرجنتين والولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخرى. الناس فى المكتبة مختلفون، أو لعلهم بدخولهم المكتبة يختلفون عن الناس فى المحلات المجاورة وفى الطريق العام. هناك بالتأكيد علاقة تنشأ بين الفرد والكتاب، أيا كان عمر الفرد وأيا كان موضوع الكتاب وشكله وزمنه وثمنه.

•••

تقول دايدرا شونا لينش أستاذة اللغة الإنجليزية بجامعة هارفارد إن الناس فى الزمن القديم كانوا يقرأون بعقولهم وليس بقلوبهم. كانوا يسخرون من شخص ينفعل بالبكاء أو يشحب وجهه أو يتغير طبعه بينما هو يقرأ فى كتاب. لم يكن يقرأ الكتاب إلا المتخصصون والفلاسفة وعلماء الرياضيات والفلك والطب. لم يكن الإنسان العادى من هواة قراءة الكتب، وفى بعض الثقافات كانت القراءة محرمة لغير الكهنة وبعض العلماء.

تقول لينش إن معظم الحال ظل على هذا المنوال حتى بدايات العصر الرومانسى. فى ذلك العصر دخل الكتاب أماكن كانت محرمة عليه، مثل غرفة النوم. دخل هذه الأماكن بعد أن تغيرت نظرة الناس إليه، كما تغيرت إلى أمور كثيرة. تغيرت مثلا النظرة إلى الزواج مع بداية جنوح ظاهرة الزواج إلى العاطفة بعد أن كانت مرتبطة بالعائلة والمصلحة المادية أو السياسية. فى ذلك العصر. زاد استخدام الناس لكلمات لها علاقة بالحب. صاروا يقولون أحببت هذا الكتاب، أو هذا المؤلف، أو وقعت فى غرام شخصية أو أخرى من شخصيات رواية فى كتاب. كان «عيبا» أن تعترف فتاة بأنها «أحبت» كتابا وفضلته على غيره، أو وقعت فى حب مؤلف قديم أو معاصر. بدأت تنتشر أيضا فى العصر الرومانسى ظاهرة زيارة مساكن عاش فيها مؤلفون كبار أو ولدوا فيها. وتشجعت الحكومات فصارت تضع هذه المساكن فى قائمة الأماكن السياحية. هكذا بدأت العلاقة العاطفية بين الإنسان والكتاب.

كنا نعتقد، والسابقون كانوا مقتنعين، بأن العلاقة بين الإنسان والكتاب لا تقع إلا فى سياق الثقافة، حتى اكتشفنا أن العلاقة ليست فقط ثقافية، ولكن أيضا عاطفية. أخطأنا، وبعضنا مايزال يرتكب الخطأ نفسه، حين سمحنا بأن يغمرنا الإحساس بأن لا علاقة لقلوبنا ومشاعرنا وأحاسيسنا بالقراءة، وخاصة بالكتاب. تصورنا، أو جعلونا فى مدارسنا وبمناهج التدريس فيها نتصوره، لا يخرج عن كونه مصدرا للمعلومات، وفى أحسن الأحوال مدرا «للثقة». جعلونا نتصور أننا نقرأ لا لشىء إلا لنعرف أكثر، أو نستفيد مما نقرأ لنكتب رسائل أو دراسات أفضل. أخفوا جانبا من الحقيقة وهو أننا نقرأ لأننا نحب أن نقرأ. نحب وقت القراءة وقد نفضله على غيره من الأوقات، وقد نحب ما نقرأ.

لم يبثوا فينا عقيدة الإيمان بوجود علاقة بين الكتاب وروح الإنسان، أو بين الكتاب وقلبه. كانت القراءة قديما، وفى حياتنا إلى عهد قريب، ممارسة جماعية. نقرأ الكتاب فى المدرسة جماعة، ونقرأه فى دروس الدين جماعة، ونقرأه فى التلقين الأيديولوجى جماعة. لم ندرك إلا منذ عقود قليلة أن القراءة ممارسة شخصية جدا، والعلاقة بالكتاب علاقة خاصة جدا. قال لى أحد عشاق القراءة أنه حين يقرأ لا يحب أن يأتى من يسأل ماذا يقرأ فى لحظتها.. يشعر حينذاك أن أحدا من حوله يسترق السمع، أو يتدخل فيما لا يخصه. لحظة القراءة لحظة خاصة جدا، لا مكان أو وقت فيها لطرف ثالث. هناك من يبالغ بطبيعة الحال، قال قارئ آخر أنه ينزعج بشدة عندما يشاركه أحد أفراد عائلته قراءة صحف الصباح أو عندما يحاول جاره فى المكتب وفى الطائرة مشاركته فيما يقرأ.

•••

إن نسيت أمورا كثيرة من أمور شبابى لا أظن أننى يمكن أن أنسى سنوات أهلتنى لمرتبة «عاشق الكتب». عملت ولم أكن قد بلغت الثامنة عشر من عمرى «صبيا» فى مكتبة عامة أجنبية. كانت وظيفتى جرد الكتب الأجنبية لحظة وصولها من الناشرين، وإعدادها كتابا للتصنيف وهذه كانت وظيفة خبراء كبار فى علم المكتبات. أكاد حتى هذه اللحظة من عمرى أذكر تماما رائحة المكان. خليط من روائح الورق والحبر والصمغ والجلد الذى كانوا يغلفون به الكتب الثمينة. لا أحد يمكنه تخيل فرحتى باللحظة إلا من واتته الفرصة ليكون أول من يرى الكتاب وأول من يلمسه وأول من يتصفحه، كنت أيضا ومع كتب بعينها أول من يقرأها.

أعرف أننى وكثيرون غيرى لن تتاح لهم الفرصة فى المستقبل ليستمتعوا بمثل هذه الرائحة أو اللحظة، فالكتب الرقمية التى تحل محل الكتب الورقية لنقرأها على شاشة الكمبيوتر لا رائحة لها.. ولا ملمس. وأعترف أننى فشلت فى إقامة علاقة عاطفية مع أى منها.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي