تستمد وداد الدمرداش ملامح شخصيتها من طابع مدينتها العمالية. فى تمام الساعة الثالثة والنصف عصرا، قد تلتقيها ناحية خط القطار أمام مصنع الغزل والنسيج، وسط كوكبة من ذوى الياقات الزرقاء الذين يتدفقون من البوابات. موعد يومى دون تخطيط مسبق مع زملاء العمل.
تتوقف الست وداد كى تفاصل أحد الباعة الجائلين، حرصا منها على توفير كل قرش لصالح أسرتها، ثم تدخل فى حوار عفوى مع هذا الزميل أو ذاك. تحدثهم عن أحقية حصولهم على عقود ثابتة بعد أن قضوا أعوام دون تأمينات، وترد على تساؤلات عامل آخر حول فتح باب التوظيف بالمصنع أو تساعد زميلا على أعتاب المعاش لحساب مكافأة نهاية الخدمة.
أفراد الأمن أيضا يلتفون حول الحاجة وداد، كما يسمونها رغم أنها لم تسافر لأداء فريضة الحج، لمجرد النصح والإرشاد. يعلق عامل ثلاثينى: «لقد فقدنا الثقة فى اللجنة النقابية والأمل الوحيد اليوم فى جدعنة الحاجة». وبالرغم من أن الحاجة وداد اكتفت بشهادة الابتدائية، إلا أنها على دراية واسعة بقوانين العمل وحقوق العمال.
هنا فى مدينة القطن المصرية، تعتبر وداد ــ عاملة النسيج ــ أيقونة الثورة المصرية، بعد أن أدرجتها صحيفة «النيوزويك» الأمريكية ضمن أشجع 150 سيدة على مستوى العالم، فى إطار الاحتفال بيوم المرأة العالمى. كما وصفتها جريدة «الواشنطن بوست» بأنها من «مفجرى الثورة»، إذ انطلقت يوم 23 يناير 2011 للاعتصام أمام قصر الرياسة بمصر الجديدة، عندما منعتها إدارة المصنع من العودة للعمل على الرغم من حصولها على حكم قضائى يؤكد هذا الحق. (تمت معاقبتها سابقا على خلفية ضلوعها فى إضرابى 2006 و2008).
فمنذ عام 2006، بزغ نجم وداد الدمرداش فى زخم أحداث المحلة الكبرى التى ظلت فى حالة غليان سياسى مستمر. أصبحت من وقتها عنصرا فاعلا فى الحركة العمالية، خصوصا خلال إضرابات المدينة الثلاثة. وبالرغم من وفائها الشديد لماكينات المصنع التى ارتبطت بها منذ 1984، لكنها قررت أن توقف عجلة الإنتاج اعتراضا على الظلم الذى تعرض له العمال. «المصنع هو بيتى الذى تربيت فيه، فما زالت وصايا أبى عن ضرورة الحفاظ على كل خيط فى هذا المكان تتردد فى أذنى. كما أن أخى دفع حياته بسبب إصابة عمل فى المصنع نفسه، ولذا أشعر بنكران الجميل بعد رحلة عطاء بذلها كل فرد من أفراد أسرتى».
هتفت وداد فى يوم من أيام إضراب 2006: «الرجالة فين الستات هنا؟!»، محفزة هكذا ستة آلاف عامل لكى ينضموا إلى 2500 سيدة كن قد بدأن الإضراب. عبر صوتها حواجز المكان ودوى بسرعة البرق من المحلة ليؤرق رجال أمن الدولة بالقاهرة. «من وقتها وأنا أتلقى تهديدات مستترة وصريحة، فقد أصبحت مدينة المحلة تحت المجهر نظرا لمجريات الأحداث. لكننى رفضت أن أسير بجوار الحائط، فقد اعتدت على تلك المناورات. وعانيت الاضطهاد طويلا بسبب مناصرتى لعاملة على حساب رئيسة الوردية. فأنا أؤمن بشدة أن الساكت عن الحق شيطان أخرس»، وهى ترفض دوما أن تكون هذا الشيطان الأخرس حتى فيما يتعلق بأدق تفاصيل حياتها. فقد علمتها المهنة الصبر دون الصمت.
«يا ويل من تغضب عليه وداد!» هكذا يمازحها زوجها، العامل بشركة الكهرباء والذى شارك بدوره فى إضراب 6 إبريل 2008، وكذلك فعل ولداها، فى حين اكتفت ابنتها بتغطية الأحداث لإحدى جرائد المعارضة من سطح منزلهم الذى تحول إلى قبلة للصحفيين من كل حدب وصوب. تعلق وداد ضاحكة: «يا آكل قوتى يا ناوى على موتى». ربما يكون هذا المثل الشعبى هو الشرارة الأولى التى جعلتها تؤمن بأن حقوق العمال لن تعود إلا بالثورة، فمعاناتها فى تدبير نفقات منزلها كربة أسرة مكونة من 6 أفراد هو ما جعلها تعيد حساباتها. «بعد رحلة عمل دامت أكثر من 15 عشر عاما، لم يتعد راتبى مائة جنيه، ولم تكن أرباحى السنوية تزيد على ثمانين جنيها، هذا على الرغم من أن الشركة التى أعمل بها تحتل المركز الثانى عالميا، فضلا عن كونها شركة الغزل والنسيج الأولى فى الشرق الأوسط. وقد حصلنا من قبل الإدارة أكثر من مرة على وعود لتحسين ظروفنا لكننا فوجئنا بأن القائمين على الشركة كانوا ينقضون العهد ويحملون العامل مزيدا من الضغوط».
دفعت وداد الدمرداش ثمن إضراب 6 أبريل 2008 غاليا، إذ تم نقلها تعسفيا من عملها وتعينها كأمينة مكتبة ثم عاملة نظافة بعيدا عن خيوط الغزل التى تعشقها، هذا بالإضافة للتلاعب فى راتبها، لكن يوم الإضراب الذى لعبت فيه دورا مهما أصبح اسما للحركة التى حملت أحد مشاعل الثورة. صرخة السيدة وداد التى انطلقت من عنابر المصنع لم تذهب أدراج الرياح: «كنت أحيانا أفكر فى التراجع عن النضال العمالى، خوفا على أسرتى، لكن النشوة التى كنت أشعر بها ساعة النصر كانت أكبر من أى شعور بالخوف خصوصا أننى كنت ألمح الفرحة على وجوه معظم أهل مدينتى حيث تمثل الطبقة العمالية الغالبية فيها. أى مكسب لعمال شركتنا كان يصب فى صالح عمال المصانع الأخرى بالمدينة. وربما كانت تلك الفرحة هى مصدر إلهامنا فى الميدان».
على الرغم من أجندتها المشحونة بالمقابلات الصحفية وتقديمها لبرنامج تليفزيونى عن حقوق المرأة عبر إحدى الفضائيات، إلا أنها تظل متحيزة بشدة لمهنتها ومدينتها، وتقوم حاليا بحصر أسماء المصابين والشهداء من المحلة، تمهيدا للمطالبة بحصولهم على معاشات ومساواتهم بشهداء التحرير، مشيرة إلى أن أربعة شباب على الأقل لقوا حتفهم بالرصاص الحى خلال أحداث إضراب 2008.