قامت الكاتبة والأديبة الفلسطينية سماح ضيف الله المزين بكتابة قراءة نقدية لأحد الكتب التي صدرت مؤخرا وتتناول أحداث الثورة المصرية وهو كتاب 18 يوم للكاتب والصحفي المصري فتحي المزين. والشروق تنشر القراءة النقدية للأديبة الغزاوية.
بقلم|| سماح ضيف الله المزين – أديبة من غزة
حديثُ الثورات.. لن ينتهي ما دام في الدم العربي قطرة لم ترتو من ماء الحرية، فقد تحررت القلوب والتي هي المنبع الأهم للحديث الذي سيصبح تاريخاً، تحررت أخيراً من وهم العبودية وعرفت كيف تستغل جرأتها بعد الشرارة التي اشتعلت في سيدي بوزيد لتعلن عن ثورة الياسمين وتشطب أول رقمٍ في قائمة المطلوبين للعدالة الإنسانية، ثم لتبعث برقية الجرأة لمصر فتكون حادثة السويس؛ القشة التي قصمت ظهر البعير، ويثور الشعبُ المصريُّ فتنفرط ثاني حبة من حبات قلادة العار التي فرضت نفسها على جيد الأمة العربية دهراً ليس بالقصير.. ولا بد أن تخطو البقية نفس الخطو، فها قد مر أكثر من عامٍ ولا تزال الشرارة تتوالدُ في الأديم العربي هنا وهناك دونما وجل!
تعثرت في هذه الفترة التاريخية - مع سبق التخطيط والترصد - لهذا التوقيت بالذات (بعد مرور عامٍ كاملٍ على الإطاحة بنظام أكبر دكتاتور عرفته الدول العربية) وفي الذكرى الأولى لذلك، لأعيش مع هذه الحادثة كأن فيلماً بحثت عنه طويلاً يقع بين يدي الآن، منذ دعاني الكاتب الصحافي/ فتحي المزين، لقراءة أول كتابه المطبوع ، عن بداية التاريخ الحديث للمحروسة (أم الدنيا) كنتُ أؤخر قراءته وكلما كان يسألني فتحي: "هاه هل قرأتِ الكتاب.. ما رأيك؟" أتهرب وأتحجج بأي حجة بقصد تأخير القراءة إلى هذا الوقت بالذات، وفعلاً.. كما أعرف نفسي؛ عشت الثورة المصرية منذ ذكراها حتى اليوم بين ثنايا هذا الكتاب مع بعض المتابعات الخفيفة على مواقع التواصل.
18 يوم، هذا هو اسمُ الكتابْ. وهو من تأليف فتحي المزين؛ الكاتب الصحافي المصري الذي عايش – ككل أبناء مصر – ثورتها العظيمة، والتي فجرت فيما بعد ما أسميه بشكل شخصيّ (الجرأة المدروسة – ربما - لأنها كانت مكبوتة قبل ذلك، وقد انفلت زمام الكبت عنها منذ خاضت سابقاتها التجربة) لدى الشعوب العربية المقهورة والشباب العربي الذي أصبح لا يقوى على ضبط ثورة المارد الساكن بداخله أكثر!
هذه الثورة تستحق أن يُكتب لها وفيها بلا توقف فلا يمكن أن تجرؤ أي نقطة على إنهاء هذه المرحلة التي دخلها العربُ أخيراً وقرروا فيها أخيراً أيضاً أن يرفعوا رايتين كان يجب أن ترتفعا منذ زمن طويل جداً، فلا فضاء الحرية يمكن أن ينتهي، ولا العيش بدون كرامة يمكن أن يرضاه من عاش متمتعا بها يوماً!
لن أتحدث أكثر عن الثورة التي أثبتت ولا تزال تثبت كل يومٍ كم هم العرب أحرار ما لم يتحكم فيهم ظنهم بأن الحكام قاهريهم.. فظلم الحكامِ أنهاه شباب في عمر الورد أقفلوا حساباتهم مع الدنيا على بوابات التاريخ - الحديث جداً – لربيع العروبة ورحلوا.. كعادة الثوار على مر التاريخ، لم ينتظروا أي ثمنٍ لا من الدنيا ولا من ساكنيها، والأهم أنهم فعلوا ذلك بعد أن علَّموا الأمة العربية كيف تزيلُ المادة اللاصقة عن أرائك حكامها!
تستوقفني كثيراً تلك الكلمات التي تُقال عن شهداء ثورات الربيع العربي ويستوقفني أكثر ربما، تلك الصفحات التي آثروا إكمالها دون حتى التوقيع بأسمائهم، فكان التوقيع دماً يصبُّ أبداً في شرايين الوطن، وأجساداً تفنى لتمنح الحرية والكرامة بقاءً أبدياً.. والمدونون الشباب الذين بدؤوا واستمروا بكتابة التاريخ الحديث وربطه بالعهد القديم ربطاً محكماً جداً، فصنعوا المرحلة الفاصلة برصاصاتٍ كانت عبارة عن كلماتٍ ثائرة لفظها المارد الشجاع الكامن في قلوب الشباب.
وكتاب 18 يوم، هو واحدة من تلك الطلقات، التي آثر صانعها أن يعبئها بأجود أنواع المتفجرات، فسرد فيما سرد تسلسلاً حقيقياً وقوياً لكل ما كان يحصل إلى أن فار التنور وأحرق وجه من كان يصرُّ على إحكام قفل بابه، فأحرز أكثر من هدفٍ في نفس الوقت وشكل الوصلة الفاصلة، و18 يوم هو صورة واضحة لتلك الفاصلة بكل ما فيها.. مشروحٌ الفراغ الذي قبلها ومتروك العنان بعدها لما سيأتي.
في هذا الكتاب عشتُ أحداث الثورة المصرية كأنني أراها قائمة هذه اللحظة، ولا تزال حاضرة بسخونة أحداثها، وبكل برودة الخطابات الجوفاء، بصدق أبنائها وعمق انتمائهم، بسذاجة المتلونين، بالحقائق التي تكشفت، والسحر الذي انقلب على الساحر، بالمصائد التي نصبت للشرفاء فأبقت على أطراف ناصبيها، بالورد الذي نبت على مقبرة الشهداء، والهتافات القوية في ساحة التحرير المسقية بمسك الثورة، وحتى النكتة الحاضرة التي تملؤني بهجة.
بعض ما ورد في الكتاب جعلني أقف طويلاً ذاهلة مرة، ومستغربة مرات.. وبعضه كان يرغمني أن أعود إلى مراجع إخبارية وإعلامية حتى أقرأ الخفايا رغم أن الكاتب اختصر عليّ ذلك في أقل من مائة صفحة، غنية بالمعلومات ومكتظة بالحقائق، لدرجة أنني تخيلت أن هذا الكتاب (الصغير حجمه والقليلة صفحاته!) يمكن أن يكون مرجعاً قوياً، موضوعياً، صادقاً، وسهل الاستخدام جداً لأي عملٍ أدبيّ أو فنيّ عن الثورة المصرية بدلاً من التخبط الذي يكشف ضعفاً في بعض ما نرى ونسمع أو نقرأ من أعمالٍ منذ النجاح الذي حققته الثورة.
أي شهادةٍ تلك التي يدونها شابٌ في مقتبل العمر.. لا ينظر من منظورٍ أنانيّ لكنه يعتبر مصر ملكاً له، تماماً كما يغني كل أبناء جيل عشاقها: "مصر هي أمي ... ونيلها هو دمي... الخ" ويتمايلون مع أنسام الهواء وسط الرحلات النيلية، وكأنها أنفاس مصر وتنهيدات راحتها حين تسمعهم يدندنون بعشقها مساء صباح، وصباح مساء!
أن تقابل شاهد عيانٍ على حدثٍ ما، واقعةٍ ما.. مجزرةٍ ما، أو حتى حربٍ ما، ويحدثك عما رأى فينقل لك الصورة كأفضل ما يمكن أن تنقل.. ربما أصبح شيئاً عادياً في ربيع الثورات وما سبقه من صحوة.. لكن أن تجد نفسك أمام شاهد عيانٍ يسحبُ التاريخ بساطاً تتبخترُ فوقه ثورةٌ بدلت معالم الدكتاتورية التي صبغت – طويلاً جداً – علاقة كل رئيس عربي بمرؤوسيه فهذا هو النادر لذلك قلتُ ما قلتُ عن كتاب 18 يوم، الذي تميز بموضوعية تامة رغم أن الكاتب كان بإمكانه أن يسرد كل شيء حسب وجهة نظره الخاصة.
في زوايا الإنترنت، وفي التلفاز، وحتى في الشارع المصري: على المقاهي، ونواصي الشوارع، وفي عربات النقل، وأماكن الانتظار، تسمع وتقرأ وترى الكثير من التعليقات الساخنة والساخرة، الملفتة وكذا المنفلتة، الملونة والتي تكتفي بالأبيض والأسود فقط، وكذلك المباشرة والمشفرة! غير أن التعليقات التي كانت تتحدث عن فشل ثورة مصر كانت أسخن/ أسخم ما أفرزهُ الهبوب الحرّ ووسّعته المساحات الواسعة لحرية التعبير، فبدأ يتحدث الجميع، من مع الثورة ومن هو ضدها غير أن الأخير يتحدث بلسانٍ ربما يصغّر به نفسهُ في عين نفسه أولاً ليبدو في أعين الجميع صغيراً.. لم ينس الكاتب كذلك أن يشير للمتملقين والمعارضين والمؤيدين والفلول وغيرهم كما أشار لأهم المتحدثين والكُتاب الذين تناولوا الثورة بكتابات تشكل علامات فارقة.
أخيراً..
لقد عشت حرباً مختلفة التفاصيل ربما في بداية العام 2009م، وكتبت عنها كثيراً.. وأعلم تماماً ما الذي كان يشعره الكاتب وهو يكتب، لكن الذي ذكرني بحرب غزة وبوضع غزة، هو تساؤل يخطر ببالي كثيراً: لماذا كانت مصر أكثر توجيها للأمة العربية من غزة وحتى من شقيقتها الكبرى بين بنات الربيع العربيّ، أهي مصرُ فعلاً محطة التاريخ التي يجب أن تقف عندها كل الرواحل القاصدة مدن النصر والتحرير؟ أم أن وضع غزة الخاص لا يجعلُ البلدان العربية تلتفت إلى أن بإمكانها حذو نفس الخطو؟ وإن كنتُ أرجّح أن السبب هو طبيعة الطرف الثاني من أطراف المواجهة ففي غزة كان اليهود هم الطرف المعتدي وقد ثبت أنهم أجبن بكثير من الصمود أمام طفلٍ يحمل مصحفاً.. أما الحكام العرب للأسف: فقد بلغت بهم "البجاحة" مبلغاً لم يبلغه بنو صهيون بعد!
بقي أن أشكر الكاتب فتحي المزين على هذا الحب القوي لمصر التي أثبتت أنها الأجدر بأن تكون البوصلة الحية للربيع العربي، وقد تحولت أيام الجمع فيها وقفات خاصة وأعطى ثوارها لكل جمعة اسماً منذ بدأ تاريخها الحديث في الحادي عشر من فبراير عام 2011م، لتظل ناقوسا يدق كل أسبوع يذكّر الثوار العرب بأن أكبر دكتاتور انتهى؛ وأن استمروا فالبقية أسهل.
لقد قال الدكتور خالد منتصر عن كتاب 18 يوم ما شفى نفسي.. وها إنني أردده في آخر هذه التدوينة لكتاب يستحق القراءة ويستحق كاتبه التكريم، يقول الصحفي الطبيب د. خالد منتصر: "لو عاد الجبرتي إلى الحياة بعد 25 يناير وامتلك الإنترنت وأصبح له صفحة على الفيس بوك.. أعتقد أنه لصعوبة المهمة سيترك مهمة التأريخ ويشطب من بطاقته الشخصية مهنة مؤرخ، لذلك أشفق على الأستاذ فتحي المزين.. فالحياد أثناء الثورات وهم، والبرود الأكاديمي خرافة، والإتيكيت عبث، لم يكتب فتحي بالشوكة والسكين، بل كتب بأظافره خادشاً حائط الكذب والزيف.. رصد ما بين السطور والتقط ما لم تسجله الكاميرات، حاول أن يلضم حبات لؤلؤ الثورة في عقد فل وياسمين، لكن الثورات مثلما تفرز أصدافها لؤلؤاً، تفرز أيضاً طحالب وحشائش وهوام، ومثلما تتعطر بالياسمين، أحيانا تفوح منها رائحة العفن، أمامكم صفحات كتبت بصدق وسطوراً تنبض حيوية، إنها وثيقة لم تكتب بالحبر السري وإنما كتبت بدم الشهداء في الميادين والشوارع.. لا نريد لحبر النفاق الصحفي أن يلوثها، من هنا جاءت أهمية هذا الكتاب، إنه بورتريه الحقيقة غير القابلة للعبة تزييف الفوتوشوب