أودعت محكمة جنايات القاهرة، اليوم الأربعاء، حيثيات حكمها في قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني، الصادر بمعاقبة 27 متهما غيابيا بالسجن 5 سنوات، من بينهم 18 أمريكيا ومصرية، وبمعاقبة 5 آخرين حضوريا بالحبس سنتين منهم أمريكي وألمانية و3 مصريين، وبمعاقبة 11 متهمًا مصريًا آخرين بالحبس سنة مع إيقاف التنفيذ، وتغريم كل متهم 1000 جنيه، وغلق جميع مقار وأفرع المعهدين الجمهوري والديمقراطي الأمريكيين وفريدم هاوس وكونراد أديناور الألمانية على مستوى محافظات الجمهورية، ومصادرة أموالهم والأوراق التي ضبطت بها.
واستهلت المحكمة، برئاسة المستشار مكرم عواد بعضوية المستشارين صبحي اللبان، وهاني عبد الحليم الحيثيات، بمقدمة قالت فيها: "إن التمويل أصبح أحد الآليات العالمية التي تشكل في إطارها العلاقات الدولية بين مانح ومستقبل، وأن التمويل شكل من أشكال السيطرة والهيمنة الجديدة، وهو يعد استعمارا ناعما أقل كلفة من حيث الخسائر والمقاومة، من السلاح العسكري التي تنتهجه الدول المانحة لزعزعة أمن واستقرار الدول المستقبلة التي يراد إضعافها وتفكيكها".
وتابعت الحيثيات، أنه "في ظل النظام البائد الذي قزم من مكانة مصر الإقليمية والدولية، وانبطح أمام المشيئة الأمريكية في مد سور التطبيع بين مصر وإسرائيل، برز على السطح التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني كأحد مظاهر هذا التطبيع بدعوة الدعم الخارجي والحوار مع الآخر، ودعم الديمقراطية والحكم ومنظمات حقوق الإنسان وغيرها من المسميات التي يتدارؤون ويتسترون في ظلها، قد أفرغوها من محتواها الحقيقي وطبعوا عليها مطامعهم وأغراضهم في اختراق أمن مصر القومي، وإفناء موجباته وتقويض بنيان مؤسسات الدولة وتفكيك أجهزتها، وصولا لتقسيم المجتمع وتفتيته وإعادة تشكيل نسجيه الوطني وخريطته الطائفية والسياسية بما يخدم المصالح الأمريكية والإسرائيلية التي كانت تعلو –في ظل النظام السابق – على صالح الوطن العام للشعب المصري وبلاده".
وأضافت المحكمة، "أنه إزاء تردي الأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر، وإحساس الشعب بضعف ورخاوة الدولة وتفككها بأنه ترك مصيره في يد جماعات سياسية (عصابة) تحكمها المصالح الخاصة، ولا يحكمها الولاء للوطن، اندلعت في 25 يناير 2011 ثورة شعبية حقيقية لإزاحة هذا الركام عن كاهل الشعب المصري، وكسر قيود الهيمنة والتبعية والارتهان الإسرائيلي التي أدمت معصم كل مصري، واستعادت الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية التي غابت عن مصر كثيرا، فأطاحت بالقائمين عن السلطة، ومهدت الطريق نحو بناء دولة ديمقراطية مدنية حديثة".
وأشارت الحيثيات إلى أن "الولايات المتحدة الأمريكية والدول الداعمة للكيان الصهيوني شعرت بالخوف والرعب، فكان رد فعل أمريكا أنها رمت بكل ثقلها ضد هذا التغيير الذي لم تعد آلياتها القديمة قادرة على احتوائه، ومن ثم اتخذت مسألة التمويل الأمريكي أبعادا جديدة في محاولة لاحتواء الثورة وتحريف مساراتها وتوجيهها لخدمة مصالحها ومصالح إسرائيل، فكان من مظاهره تأسيس فروع لمنظمات أجنبية تابعة لها داخل مصر خارج الأطر التشريعية لتقوم بالعديد من الـنشطة ذات الطابع السياسي (التي لا يجوز على الإطلاق الترخيص بها) للإخلال بمبدأ (السيادة)، وهو المبدأ المتعارف عليه والمستقر في القانون الدولي، ويعاقب عليه في كافة دول العالم ومن بينها الولايات المتحدة الأمريكية نفسها".
ولفتت حيثيات الحكم إلى أن "الجانب الألماني قام عن طريق المركز الرئيسي لمنظمة كونراد اديناور الألمانية، بتمويل القائمين على تلك المنظمة، من أجل إدارة نشاط سياسي لا يجوز الترخيص به أصلا، إذ قام بتنفيذ المئات من برامج التدريب السياسي وورش العمل وتمويل العديد من الأشخاص الطبيعيين والمنظمات والكائنات غير المرخص لها بالعمل الأهلي والمدني، وذلك لا يجوز الترخيص به لإخلاله بسيادة الدولة المصرية".
وأوضحت أنها "أطمئنت إلى شهادة كل من الدكتورة فايزة أبو النجا وزيرة التخطيط والتعاون الدولي الأسبق، والسفير مروان زكي بدر المشرف على مكتب وزيرة التعاون الدولي، وأسامة عبد المنعم شلتوت مدير شئون المنظمات غير الحكومية بوزارة الخارجية، وليلى أحمد بهاء الدين نائب مساعد وزير الخارجية لشئون حقوق الإنسان، وعزيزة يوسف رئيسة ال'دارة المركزية للجمعيات والاتحادات بمنظمات التضامن والعدالة الاجتماعية، وتحريات الأمن الوطني، والرقابة الإدارية والأموال العامة، وما جاء بتقرير لجنة تقصي الحقائق، وما قرره المتهمون أمام قاضي التحقيق بقيامهم بتأسيس هذه الفروع من تلك المنظمات وتمويلها من المراكز الرئيسية للمنظمات بالولايات المتحدة الأمريكية وكذلك من ألمانيا، وما أسفر عنه الضبط والتفتيش لمقر المنظمات الذي تم بمعرفة النيابة العامة".
وتناولت المحكمة في الحيثيات الرد على دفاع المتهمين بشأن الاعتذار بجهل المتهمين بالقانون بأن "العلم بأن القانون الجنائي والقوانين العقابية المكلمة له مفترض في حق الكافة، ومن ثم لا يقبل الدفع بالجهل والغلط فيه كذريعة لنفي القصد الجنائي وأن قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية رقم 84 لسنة 2002، ذو جزاء جنائي، ومن ثم فهو بهذا الاعتبار قانون مكمل لقانون العقوبات، فله حكم قانون العقوبات ومن ثم لا ينفي الغلط فيها القصد الجنائي، وبالتالي فإن كون المتهم غير عالم بأن المنظمة غير مرخص بها من الحكومة أمر لا ينفي لديه القصد الجنائي، إذ يعتبر جهلا منه بحكم القاعدة الجنائية ذاتها وهو جهل لا يصلح عذرا طالما أن هذه القاعدة الجنائية تفرض على المخاطب بها التزام التحري عن المنظمة التي يعمل بها قبل قادمة على ذلك، فإن هو أغفل عن هذا التحري وفرط في أداء الالتزام به، فلا يلومن إلا نفسه فهذا الإهمال والقصد يعتبران شيئا واحدًا".
وتناولت المحكمة أيضا على ما أثاره هيئة الدفاع عن المتهمين من أن الاتهامات المسندة للمتهمين تحكمها المواد التي جاءت في قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية رقم 84 لسنة 2002، واللاحقة في تاريخها على المواد المضافة لقانون العقوبات وهي الأصلح للمتهمين، وبحسبان أن مواد الاتهام الواردة بقانون العقوبات ملغاة بموجب نص المادة 7 بمواد قانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية، فردت المحكمة على هذا الدفع بقولها بأن القانون الجنائي يحكم ما يقع في ظله من جرائم إلى أن تزول عنه القوة الملزمة لقانون لاحق، كما أن تغيير الدستور لا يلغي الجريمة التي مازالت في نظر المشرع معاقب عليها من وقت حصوله حتى الآن مؤدى ذلك تطبيق مواد الاتهام الواردة في قانون العقوبات.
أما ما أثاره الدفاع بتطبيق قانون الجمعيات باعتباره الأصلح للمتهمين، فقد ردت عليه المحكمة بأن المادة 76 من قانون الجمعيات المذكور بالباب الخامس منه، قد أحال على قانون العقوبات أو أي قانون آخر إذا كان به عقوبة أشد من العقوبة الواردة في المادة 76، ولما كان الجرائم المسندة للمتهمين يعاقب عليها قانون العقوبات بعقوبات أشد من العقوبات الواردة بقانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية، ومن ثم وجب إعمال مواد الاتهام الواردة بقانون العقوبات المنصوص عليها فيها، ولا مجال لإعمال القانون الأصلح للمتهم.
وأشارت المحكمة أنه بشأن ما أثاره دفاع المتهمين عن المنظمة الألمانية كونراد اديناورد من تقادم الجريمة التي يحاكم بشأنها المتهمين بمضي المدة، فقد ردت المحكمة على ذلك بأن الاتهام المسند للمتهمين من أنهم أدارا بغير ترخيص من الحكومة المصرية فرع لمنظمة ذات صفة دولية بغير ترخيص من الحكومة المصرية وتسلما أموالا مقابل ارتكابهما تلك الجريمة، وأن الجريمة المسندة إليهما هي ليست تأسيس فرع لمنظمة، ولكن إدارة فرع لمنظمة وهي طبيعة الفعل المادي فيها جريمة مستمرة لا تبدأ المدة المقررة بإنقضاء الدعوى الجنائية بمضي المدة إلا عند انتهاء حالة الاستمرار، وهو استمرار تجددي ويظل المتهم مرتكبا للجريمة في كل وقت وتقع جريمته تحت طائلة العقاب مادامت حالة الاستمرار قائمة و لم تنتهي بعد.
وأوضحت المحكمة في سياق ما أثاره الدفاع بشان تقديم بعض المنظمات بطلبات أمام وزارة الخارجية للحصول على تصاريح بالعمل منذ عام 2005، ولم يبت في هذه الطلبات مما يعد تصريح ضمني بالعمل بأنه لا يجوز لأي منظمة أجنبية غير حكومية ممارسة العمل في مصر أو فتح فروع لها، إلا بعد إبرام اتفاق نمطي مع وزارة الخارجية المصرية وإرساله لوزارة التضامن والعدالة الاجتماعية، ليقوم بتسجيل فرع المنظمة بالوزارة، وأنه لا يترتب على مجرد تقديم الطلب أي آثار قانونية تجيز لتلك المنظمات الأجنبية غير الحكومية العمل في مصر، لاختلاف وضعها عن الجمعيات والمؤسسات الأهلية المصرية التي يتيح لها القانون التأسيس وممارسة العمل بعد إخطار وزارة التضامن بذلك إذا لم تقم الوزارة بالاعتراض على التأسيس أو رفضه بعد 60 يوما من ذلك الإخطار، ومن ثم يستوي في عدم وجود التصريح أو الترخيص أن تكون المنظمة قد تقدمت بطلب للحصول عليه من الجهات المعنية، ولم يبت في هذا الطلب أو صادف رفضا أو لا يكون تقدمت المنظمة بطلب على الإطلاق.
وانتهت المحكمة في حيثيات حكمها بأنه أولا: لا يتصور عقلا ومنطقا بأن لأمريكا أو لغيرها من الدول الداعمة للكيان الصهيوني أي مصلحة أو رغبة حقيقية في قيام ديمقراطية حقيقية في مصر، فالواقع والتاريخ يؤكد بأن تلك الدول لديها عقيدة راسخة أن مصالحها تتحقق بسهولة ويسر مع ديكتاتوريات العاملة ويلحقها الضرر مع الديمقراطيات الحقيقية .
وأن الحقيقة الثانية: أن من ما يدفع المال فهو يدفع وفق أجندته الخاصة التي حددها، واستراتيجيا يريد تحقيقها من ورائها أهداف ينبغي الحصول عليها، هي في الغالب تتناقض مع الأهداف النبيلة للمنظمات التطوعية الساعية إلى توعية وتطوير المجتمع والدفاع عن الحقوق الإنسانية .
وتتمثل الحقيقة الثالثة : في أن التمويل الأجنبي للمنظمات الغير حكومية يمثل حجر عثرا أمام مصر التي يريدها شعبها، ولكن في الوقت ذاته يمهد الطريق أمام مصر التي يريدها أعدائها .
وانتهت المحكمة بعد أن أكدت على تلك الحقائق أهابت بالجهات المعنية في المجتمع المصري، أن تحث وتشجع الجمعيات الأهلية وجمعيات حقوق الإنسان التي لا تبغي سوى الحق والارتقاء بصرح الديمقراطية في المجتمع بوعي ونية خالصة، وأن يتم تمويلها من الداخل حتى لا تحوم حولها الشبهة أو يلعب بها الغرض.
وطالبت المحكمة النائب العام بإجراء التحقيق مع المنظمات والجمعيات والكيانات التي تلقت تمويلا من بعض الدول العربية والأجنبية، والتي ورد ذكرها في لجنة تقصي الحقائق أسوة بما تم مع المنظمات المعنية بهذا الحكم، وبسرعة إنهاء التحقيق مع كل من مكن المتهمين الأجانب من الهرب .