وكأن منظمة العمل الدولية كانت تلوح أمامها إرهاصات الثورات العربية، أو صور للغضب المكتوم داخل متظاهرى وول ستريت بأمريكا، أو مشاهد انفجار أهل أثينا فى وجه الحكومة اليونانية، حين تنبأت فى تقريرها الأخير عن الأجور فى العالم بأن التباين الزائد عن الحد فى الأجور، بين فئات المجتمع فى العالم، سوف يخلق اضطرابات اجتماعية. «إذا كان الشباب لا يمكنهم العثور على عمل، وأصبحوا مهمشين فغالبا ما تكون العواقب عبارة عن انتهاكات للقوانين، واضطرابات اجتماعية». «العاملون بأجور منخفضة عقدوا العزم على المطالبة بتوزيع عادل لثمار النمو الاقتصادى» تبعا لما جاء فى تقرير المنظمة لعام 2010/2012، وهو الثانى الذى تصدره تحت عنوان «التقرير العالمى للأجور».
ومنذ منتصف التسعينيات وهناك زيادة فى عدد الأفراد ذوى الأجور المنخفضة، أى من يتقاضون أقل من ثلثى متوسط الأجور فى بلادهم، وامتد ذلك إلى أكثر من ثلثى دول العالم، وهذا يمثل خطورة من حدوث توترات اجتماعية. خاصة إذا شعرت فئات بعينها أنها دفعت ثمنا باهظا أثناء الازمة المالية، بينما أرباح الانتعاش الاقتصادى تم توزيعها بشكل غير عادل غير تبعا لذات التقرير.
وفيما يشبه إعلانا لسقوط نظرية النمو الاقتصادى القائم على التصدير يشير التقرير إلى أن هبوط الطلب المحلى الذى سبق الأزمة العالمية فى عام 2008، والذى نتج عن التباين فى الأجور الذى حول الأموال لصالح الفئات ذات الدخل المرتفع الأكثر قدرة. وهى التى تميل بطبيعتها إلى الادخار، ولا تنفق إلا القليل، بينما الأسر منخفضة الدخل، والتى هى بحكم ظروفها تميل أكثر إلى الإنفاق، أصبحت تتحصل على أجور منخفضة. وهذه الطبقة الأخيرة عوضت قلة الدخل، وقلة الاستهلاك بالاقتراض. أى أن النمو الاقتصادى تحقق عن طريق زيادة المديونية خاصة فى الولايات المتحدة الأمريكية. وهو ما ثبت أنه لا يمكن استمراره وتحمله. ولكن وتيرة الانتعاش سوف تعتمد بالأساس على مدى استخدام الأسر لدخلها فى استهلاك ما ينتجه الاقتصاد العالمى. ولكن الدول التى ستعتمد على التصدير لتحقيق النمو سوف تخلق اختلالات عالمية على حد قول التقرير.
وليس بعيدا عن تقرير المنظمة ما ترصده ماجدة قنديل المدير التنفيذى للمركز المصرى للدراسات الاقتصادية من خريطة الأجور فى مصر. فبينما هناك قطاعات مثل التعدين، والوساطة المالية، مثل العمل فى البنوك، وسوق المال، والتأمين والتى لا تستوعب عددا كبيرا من العمالة، نجد أن متوسط الأجر فى هذه القطاعات ينمو بشكل أعلى كثيرا من زيادة الإنتاجية بداخله. فى حين أن هناك قطاعات أخرى تشكو من ضعف أجورها. وهو ما يكشف عن اختلال فى سياسة الأجور. بحيث يتم زيادة المرتبات بشكل عشوائى، لا يتناسب مع زيادة الإنتاجية. ويبدو هذا التناقض واضحا فيما ترصده قنديل من أن النمو فى متوسط أجور العاملين فى قطاع التعدين فى عام 2009/2010 زاد على 30% مقارنة بالعام السابق عليه. فى الوقت الذى انخفضت فيه انتاجية القطاع بنسبة حوالى 2% فى نفس الفترة. وفى حين زاد متوسط الأجر بنسبة 30% فى قطاع الوساطة المالية مثل البنوك والتأمين نجد أن هذا القطاع لم يزد النمو فى الإنتاجية فيه عن 2%. وكذلك قطاع الاتصالات والمعلومات الذى حقق العاملون فيه زيادة فى متوسط الأجر قدرها حوالى 25% بينما لم يزد النمو فى الإنتاجية على أقل من 10%.
ويبدو التفاوت فى متوسط الأجور جليا ليس بين منطقة وأخرى فقط ولكن بين مهنة وغيرها من المهن. حيث متوسط الأجر فى المناطق الحضرية 401 جنيه أسبوعيا، وفى المناطق الريفية 275 جنيها أسبوعيا. وفى الصعيد يصل المتوسط إلى 373 جنيها، وهو ما يعد أعلى من المتوسط فى مناطق الوجه البحرى. وتتركز الوظائف الاعلى أجرا فى السويس خاصة فى مجالات (الوساطة المالية والنقل والتخزين) بينما تتركز الانشطة الاقل دخلا فى الشرقية مثل التعليم والزراعة.
واللافت أن متوسط الأجور فى مصر فى عام 2009/2010 فى قطاعات مثل الوساطة المالية والتأمين هو الأعلى على الإطلاق 1157 جنيها أسبوعيا. وهو ما يزيد كثيرا عن المتوسط العام للأجور وهو 362 جنيها أسبوعيا. وكذلك قطاع التعدين. بينما تظل قطاعات مثل التعليم، والزراعة أقل كثيرا من المتوسط العام حيث يبلغان (157 و190 جنيها )فى الأسبوع على التوالى.
كما أنه تبين أن القطاع الخاص لا يساهم بقدر كبير فى التشغيل يتناسب مع قدر مساهمته فى النمو. ويبدو أنه لديه تشغيل زائد فى مجالات مثل الوساطة المالية والتعليم والصحة والخدمات الشخصية. وهو ما يكشف عن أنه هناك متسع لمزيد من فرص التشغيل فى الاتصالات والمطاعم والفنادق والتعدين والنقل والتخزين. بينما فى القطاع العام هناك مزيد من فرص التشغيل فى قطاعات مثل الوساطة المالية والتعدين وتجاة الجملة.
لاخوف من فقد الوظائف
منذ عشر سنوات، وقبل تطبيق نظام الحد الادنى للاجور مباشرة كانت السمة الغالبة للنقاش هى المخاوف من فقد الوظائف من جراء ذلك. ولكن فى الحقيقة منذ تطبيق هذا الحد فى كثير من الدول لم يثبت وجود اى دليل على حدوث اضرار على الاقتصاد او نقص فى الوظائف. ولا اى اثار سلبية وهذا طبقا للدراسات التى اجرتها لجنة الاجور المنخفضة التابعة لمنظمة العمل.
ولا يبدو بعيدا الحد الأدنى للأجور الذى قدرته امنية حلمى استاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة نائب المدير التنفيذى بالمركز المصرى عن ذلك الحد الذى قررته الحكومة على العاملين فى مصر عند 700 جنيه. حيث تحدد فى دراسة أعدتها عن الحد الأدنى للأجور بأنه يجب ألا يتجاوز 50% من المتوسط العام للأجور الشهرية فى الاقتصاد القومى. «لأن المغالاة قد ترفع تكلفة الإنتاج، وتقلل من فرص العمل. وبالطبع يجب ألا يقل هذا الحد الأدنى عن خط الفقر. ويمكن ان نميز بين قطاع واخر، او محافظة وغيرها، وذلك طبقا لارتفاع حدة الفقر، أو زيادة تكلفة المعيشة فى تلك المحافظات» تبعا لحلمى.
وهناك 3 سيناريوهات لتحديد حد أدنى للاجور. الاول تبعا لتكلفة المعيشة فى كل محافظة على حدة أخذا فى الاعتبار معدل التضخم فى كل محافظة. وقد وجد ان الحد الأدنى تبعا لذلك يتراوح بين 666 و690 جنيها. بينما السيناريو الثانى يعتمد على متوسط الإنتاجية فى كل قطاع مقارنة بالمتوسط العام. وهنا تبين أن اعلى انتاجية فى قطاع التشييد، واقل انتاجية فى خدمات التعليم، والصحة. بينما متوسط الإنتاجية فى مصر يبلغ 683 جنيها وطبقا لهذا السيناريو يبلغ الحد الأدنى ما بين 682 و687 جنيها. وطبقا للسيناريو الثالث الذى يعتمد على الإنتاجية وتكلفة المعيشة فإنه يقدر الحد الادنى بما يتراوح ما بين 675 و686 جنيها.
الحد الأدنى للأجور فى مصر 67 دولارًا
يبلغ الحد الأدنى للأجور فى مصر 67 دولارا، بينما يصل هذا الحد فى اليونان إلى 1096 دولارا، وإسرائيل 960 دولارا، والجزائر 308 دولارات، والمغرب 173 دولارا، وتونس 315 دولارا، والسودان 84 دولارا، والصين 173 دولارا، وإيران 541 دولارا، وتركيا 609 دولارات، والأردن 261 دولارا، وسوريا 207 دولارات. ويحدد التقرير أن المقصود بالدولار هو القدرة الشرائية للدولار فى الولايات المتحدة الأمريكية.
البورسعيديون على رأس قائمة الأجور وأهل قنا أكثر حظا من القاهرة
«30 % ممن يعملون فى مصر يحصلون على أجر منخفض» تبعا لرصد منظمة العمل التى تشير إلى أن الرجال أفضل حالا من النساء، حيث إن 26% من الرجال الذين يعملون فقط هم الذين يحصلون على أجر منخفض، بينما 47% من النساء هم فى نفس القائمة.
وكان الفارق شاسعا بين القطاعين العام والخاص. حيث أستحوذ الأخير على النسبة الغالبة من هؤلاء الحاصلين على أجور منخفضة بنسبة 41%، فى حين كانت هذه النسبة فى القطاع العام لا تتعدى 14%. وكانت بورسعيد صاحبة أكبر عدد من العمالة منخفضة الأجر بينما النسبة الأقل كانت فى محافظة قنا.
بينما وقعت القاهرة فى الوسط بنسبة 29% من العاملين بها يتقاضون أجورا منخفضة بين تبعا لذات التقرير. ويذكر أن منظمة العمل الدولية تعرف أصحاب الدخول المنخفضة بأنهم هؤلاء الذين يحصلون على أقل من ثلثى متوسط الأجور فى المجتمع. بينما جهاز التعبئة والإحصاء فى مصر يعرفهم بأنهم هؤلاء الذين يحصلون على أقل من نصف متوسط الأجور فى مصر.