دفعت الثمن كاملا.. لم تتأخر على على الوطن فى دفع ضريبة الدم فى سبيل تحقيق النصر وتحرير الأرض، إنها مدينة القنطرة شرق، التى عانت كغيرها من مدن القناة من ويلات الحرب، وإن كانت بدرجة أكبر من أى مدينة أخرى، إذ لم يتمكن سكانها من الهجرة خارج محافظة الإسماعيلية بعد أن أحكم العدو قبضته على سيناء.
الحياة فى قرية جلبانة التابعة للقنطرة شرق ــ على سبيل المثال ــ تؤكد أن شيئا لم يتغير بعد، على مدار أربعة عقود ويزيد، لايزال معظم البيوت مقامة بالطوب اللبن، الأغنام تنتشر فى المساحات الخالية، أعواد البوص لا تزال المظلة الواقية من الشمس لمضّيفة المنازل.. نساء يرتدين البرقع ، والأطفال يلهون وسط كل ذلك يجلس حسن عياد سويلم، هذا المسن الذى كان يوما أحد المجاهدين ضد القوات الإسرائيلية فى سيناء.
رغم ما خطته يد الزمن على ملامح عم حسن من نتوءات وتجاعيد إلا ذاكرة الرجل السبعينى مازالت «مصفحة» ضد النسيان، تحوى بين جنباتها تفاصيل صولات وجولات استمرت لسنوات طويلة خلال الحرب. يتذكر الشيخ حسن المنتمى لقبيلة المساعيد تاريخ انضمامه لـ«منظمة مجاهدى سيناء» عام 68 فى عمر 21 عاما، عقب الحكم الإسرائيلى على والده بالسجن 5 سنوات لتعاونه مع المخابرات المصرية، والتى قضاها فى سجن «أشكلون المجدل» .

الشيخ حسن عياد وفي يده نوط الامتياز من الدرجة الأولى
«عندما أبلغنى صديقى حسين مسلم أن المخابرات الحربية تريد شخصا يجيد القراءة والكتابة وموثوقا فيه، لم أتردد فى القبول ثأرا لوطنى ووالدى.. كنت مملوءا بالحماس لعمل أى شىء للثأر من اليهود حتى لو كلفنى ذلك روحى».
ويقول الشيخ حسن كما يلقبه أهل القرية «تسللت مساء لمكتب المخابرات للقاء قادته وللخضوع لاختبارات القراءة والكتابة التى تعلمتها فى الكُتاب فى وقت ندر فيه التعليم لمن هم فى مثل سنى.. تعلمت كذلك طرق فك الشفرة، وتلقيت تدريبا بعنوان (اعرف عدوك) عن تسليح العدو وأنواع طائراته».
ويضيف: «قضيت 38 يوما فى العمليات الخاصة، حتى كلفت برصد كافة التحركات على طريق (الطاسة ــ بالوظة) الذى كان أهم الطرق التى يستخدمها العدو فى وصول القوات لقناة السويس، وارتديت جلبابا قديما ممزقا وأحضرت أغناما وماعزا لأبدو كراع للغنم، أجمع المعلومات صباحا، وأرسلها مساء بالشفرة.. وتغلبت على محاولات رصد العدو للاتصال بتوجيه قادتنا».
ويتذكر الشيخ حسن الجوال الذى خاطه بفروع صغيرة من شجرة «السبط» وارتداه بالقرب من قاعدة صواريخ للعدو المحاطة بنفس نوعية تلك الأشجار حتى تتوه عنه الأنظار ويبدو كأنه إحدى الأشجار ويصفها الشيخ حسن بعملية «بطارية الهوك» كما كان يطلق عليها «وهى عبارة عن 3 قواعد للصواريخ فى مناطق الطاسة وبالوظة وأبوسمارة محاطة بالألغام، والتى تمكنت من دخولها بمساعدة الشيخ حسين مسلم مرتديا الجوال واستخدمت خيط الدوبارة فى قياس أقصى مسافة من داخل القاعدة وحتى 8 كيلو لتحديد المكان الذى يمكن قصف القاعدة منه، بعد استخدام مجسات تدربت عليها لمعرفة موقع اللغم وبالفعل تم تدميرها، وأعقبها تدمير القاعدتين الأخرتين».
ويضيف: «كانت أسعد لحظة فى حياتى حين سمعت صوت الانفجارات، وشاهدت الدخان يتصاعد من القاعدة».
وتتوالى عمليات الشيخ حسن وصديقه حسين حتى أكتوبر 73 «عندما عبرت القوات المسلحة قناة السويس فى ذلك المشهد المذهل.. شاهد غرفة عمليات الجيش الثانى وقد انتشرت بالقنطرة شرق مع غروب يوم 6 أكتوبر.. شعرت بالفخر لأنى أحد من ساهموا فى تحقيق النصر».
ويتابع: «استكملنا التعاون مع القوات المسلحة ولكن كان العدو فقد قوته فكان الاتصال بالشفرات أسهل من السابق، حتى سيطرنا على القناة والقنطرة شرق تماما وتحقق الانتصار العظيم». حصل الشيخ حسن على العديد من الأوسمة وشهادات التقدير ونوط الامتياز ونجمة سيناء التى تمنحه شهريا 700 جنيه، ومبلغ مماثل كمعاش شهرى، ولايزال يعيش الشيخ المجاهد فى مكان الأحداث جامعا ذكرياته ليرويها لأحفاده وأبنائه التسعة.
قصص البطولات بالقنطرة شرق لا تنتهى، قبائل عديدة قدمت أبناءها فداء للوطن وتعاونت مع القوات المسلحة لتحقيق النصر للوطن، سلامة أجود ابن قبيلة العيايدة يروى قصة استشهاد والده الذى قتله العدو الاسرائيلى أثناء مروره بالقرب من كمين تابع له مساء، يقول سلامة «كنا نسكن بمنطقة جبل لبنى، وكان والدى مسئولا عن تصويره المناطق العسكرية خلال حرب الاستنزاف ورصد تحركات قوات العدو وابلاغها للجيش المصرى، وكان الجيش الإسرائيلى دائم التفتيش لمنزلنا لعلمه بتعاون والدى مع القوات المسلحة، وخلال مروره بكمين قريب من تبة الشجرة أطلق عليه جيش العدو النيران وسقط قتيلا وتولى شيوخ القبيلة دفنه دون أن نراه».
ويضيف: «ترك والدى 4 أبناء وأكمل شقيقى مسلم التعاون مع المخابرات حتى انكشف أمره وحاول الاسرائيليون قتله أكثر من مرة.. وقتها كنت صغيرا لا يتجاوز عمرى 15 عاما، ولكنى كنت أساعد شقيقى فى رصد تحركات العدو، حتى انتقلنا لمكان آخر وساهمت معرفتنا بالمدقات والجبال فى الاختباء ومراقبة حركة العدو جيدا، حتى كانت حرب أكتوبر التى شاهدنا فيها بانفسنا هزيمة إسرائيل الساحقة».
يؤكد أجود أنه انتقل للمعيشة فى قرية الأبطال «إلا أن المنطقة منذ الحرب لم تشهد أى تطوير، ولاتزال مناطق المروة والأحواض والأحراش وشعيرة بدون خدمات، سواء مياها أو كهرباء، أو وحدات صحية ومدارس، والذى يحول دون استكمال أبنائنا تعليمهم بسبب بعد المسافة لأقرب مدرسة».