قبل عام من اليوم أقر حسني مبارك أن حكمه الذي بدأ مع اغتيال الجماعة الاسلامية لأنور السادات في 6 أكتوبر 1981 قد أتى إلى نهاية ــ كان يأمل كما يظن البعض أنها ليست أليمة، حيث ظن أنه سيكون محل تقدير لتنحيه عن منصبه وأنه لن يُحاكم، أو كما يقول البعض إنها ليست نهائية لأن جمال مبارك، الابن الأصغر للرئيس الذي كان يضع عينيه وربما أطراف يديه على كرسي الحكم، كان يقول له إن «الناس هتندم على اللي حصل وكل حاجة هترجع كويسة!».
لكن بعد عام من تنحي مبارك، ورغم تداعٍ أمني واقتصادي، ورغم اتهامات من هنا وهناك تُوجه لثورة 25 يناير بأنها كانت «نكسة على مصر»، ما زال التيار الغالب في الشارع السياسي المصري مصرًا على أن يُحاكم مبارك محاكمة عادلة، ليس فقط عن التهم المنسوبة إليه: اتصالا بفساد إداري وقتلا للمتظاهرين خلال الثمانية عشر يوما للثورة، بل عن مجمل حكم دام 30 عامًا يصر كثيرون أن مصر فقدت فيه الكثير والكثير من مقومات وضعها الإقليمي وصفائها المجمتعي وإمكانات رخائها الاقتصادي ــ حتى وإن كسبت شيئًا من الاحتياطي النقدي وبعض مشاريع البنية التحتية على أهمية هذا وذاك.
يقول معاونون ووزراء سابقون: إن لحظة التنحي عن حكم مصر تحت ضغط المظاهرات الشعبية العارمة التي تفجرت في كل أنحاء الوطن وتبعتها دعوات من عواصم كان مبارك يظنها الحليف الذي يرتكن إليه بأن «يرحل» عن الحكم لم تكن حتمية الحدوث بهذا الشكل قبل ستة أعوام من اندلاع الثورة، عندما بدأ المفكر الوطني عبدالوهاب المسيرى والمناضل البورسعيدي جورج إسحاق دعوة "كفاية".
يقول أحدهم: إنه عندما ذهب إسحاق أمام إحدى كنائس القاهرة وهتف منفردًا: «يا أم النور يا أم النور حسني مبارك امتى يغور»، في تضرع سياسي ــ لا تتفق مفرداته مع محبة أتى بها يسوع المسيح ودعا إليها ــ للسيدة مريم العذراء أن تشفع لمصر بنهاية لحكم مبارك، وعندما علم زكريا عزمى، مدير ديوان رئيس الجمهورية لمعظم سنوات حكم مبارك، والرجل المتنفذ في النظام السابق، تلفظ بألفاظ نابية بحق إسحاق، ورأى أن ما جرى لم يكن فيه ما يستحق لفت نظر الرئيس إليه حتى وإن مثل سابقة لافتة بالفعل أن يجاهر أحدهم بصراحة مباشرة لا لبس فيها أن مبارك يجب أن يرحل.
القصص التى تُروى ممن عملوا مع مبارك، بما في ذلك بعض من وزرائه السابقين، عن نهر عزمي لهم عندما كان يحاول أحدهم أن يطلع الرئيس على تفاصيل «تضايق الرجل» لا تنتهي، خاصة خلال السنوات الخمس الأخيرة لحكمه.
تفاصيل مشابهة يرويها بعض ممن كان لهم مكان في حكم مبارك عن صفوت الشريف، المستشار الأقرب لمبارك ووزير إعلامه لما يقارب طول فترة حكمه، والأمين العام للحزب الوطني الديمقراطي الذي ترأسه مبارك وهو كيان غير فاعل قبل ظهور جمال مبارك في وسط المشهد السياسي في 2002 ليعطي الحزب الحاكم قبلة بدت كأنها قبلة الحياة لهذا الكيان الواسع والمدعوم بالنفوذ المالي لرجال أعمال والأمنى لوزارة الداخلية ولكنها في النهاية كانت، حسبما يصر كثيرون، قبلة الموت لنظام مبارك نفسه الذي تداعى تحت وطأة مشروع التوريث.
ويتفق ماجد عبدالفتاح الذي عمل مديرًا لمكتب المعلومات في مؤسسة رئاسة الجمهورية في الفترة من 1999 وحتى 2005 ومحمد العرابي الذي عمل مديرًا لمكتب وزير الخارجية في مطلع العقد الاول من الألفية الثالثة قبل أن يكون سفيرًا لمصر في برلين، التي أكثر مبارك من التردد عليها لعمليات جراحية واستشارات طبية منذ 2004 وحتى نهاية حكمه أن نصائح عزمي والشريف وآراءهما كانت لها دور رئيسي في صيرورة الأمور، وأن مبارك كان يثق فيهما.
ويقول العرابي: إن «طول المدة التي حكم فيها مبارك كانت سببًا رئيسًا في الطريقة التي انتهى بها حكمه، خاصة وأنه نظر لمقعد الرئاسة على أنه وظيفة لمدى الحياة» وتزامن ذلك مع «طول بقاء نفس المستشارين حوله» وفي الوقت الذي كان تقدم مبارك في العمر وظروفه الصحية يحولان دون قدرته على التطلع بدقة لتفاصيل بادية، خاصة فيما يتعلق بالأوضاع الداخلية، كان بقاء ذات المستشارين لفترة طويلة وتنفذهم لديه مدعاة لمزيد من «الركود»، والابتعاد عن اتخاذ «مبادرات شجاعة»، وأصبحت الفكرة المسيطرة هي تفادي الهزات.
ويقول معاونون عملوا مع الشريف: إن الرجل كان يستخدم آلة الإعلام ليغذي لدى مبارك أفكاره عن نفسه بأنه الرجل الذي جنّب مصر الهزات، وبأنه الرجل الذي تسلم البلد وهي في حالة مزرية داخلية، فحقق لها نهضة تنموية كبيرة، وهو ما كان يتسبب أنه عندما كان يلفت أحدهم نظر الرئيس إلى مشكلة كبيرة كان يطلب تقريرًا مفصلا عنها.. لكنه كان يضيف «يعني ما كنتش البلد عدلة قوي لما مسكت».
وفي حين يرى بعض من عملوا وثيقًا مع مبارك وحتى الأيام الأخيرة أن تنفذ عزمي والشريف أصبح حاسمًا بل يكاد يكون وحيدًا ــ بعد قول جمال مبارك والسيدة سوزان مبارك، حسبما يقدرون ــ يرى العرابي أن المشكلة كانت في رغبة الدائرة المباشرة من المعاونين «بالانفراد بالرجل وإثناء أي من يحاول اختراق هذه الدائرة»، أما جمال مبارك والسيدة الأولى السابقة، فهما حسبما يروون، لم يكن لهما دور، فيما رآه وسمع به، في سياق رسمي مباشر؛ لأن مبارك «كان شخصًا مسيطرًا على الأسرة».
ويتفق كثيرون أن طريقة مبارك في الحكم خلال السنوات العشرة الاخيرة كانت تميل للاعتماد على تراكم الذاكرة المعلوماتية وهو ما أدى به إلى تقليص المساحة والوقت المقرر لقراءة التقارير والاعتماد على هذه الذاكرة ــ التي يقول عبدالفتاح: إنها كانت جيدة جدًا حتى عام 2005 وكانت ثرية بالفعل بالنظر إلى أنها تراكمية منذ توليه منصب نائب رئيس الجمهورية في 1975. لكن الاعتماد على هذه الذاكرة، في رأي البعض، أدى إلى أمرين كارثيين، خاصة فيما يتعلق بالشأن الداخلى، أولهما هو تبني تصورات مسبقة «لأنه أصبح فاهم أنه عارف كل حاجة، وأنه مش عايز حد يشرح له حاجة» ــ وهذا في حد ذاته بحسب العرابي جعل الكثيرين حتى من المخلصين والمقدرين له يُحجمون عن تقديم النصح في أحوال كان النصح يبدو فيها واجبًا ــ والأمر الثاني أنه جعل مبارك نفسه يتصرف كمن يحتاج سكرتارية موثوقة فقط وهو ما فتح الباب أمام الدور الذي لعبه جمال مبارك والذي كان له مكتب مواز لمكتب مبارك في سكرتارية الرئاسة، كان العديد من الوزراء في السنوات الأخيرة يتسابقون على أن يحصلوا على حُظوة التخاطب معه فأصبح «مؤثرًا بصورة غير مباشرة، وربما لا يراها مبارك نفسه على القرارات ودي كانت مساحة للعب أذت الرجل تمامًا»، حسب قول أحد العارفين.
مبارك نفسه لم يكن خائنًا لمصالح الوطن أبدا، كما يصر كل من تحدثوا مع «الشروق» سواء بالتقدير أو الغضب عن حكم مبارك، ولكنه فقد الرؤية لمحدودية الصلاحيات المفترضة لرئيس الجمهورية، وتصور أنه المخلص لمصر فغابت عن عينه حقائق كانت بادية لكثيرين من تداعي الأحوال المجتمعية وفقدان الثقة في منظومة الرئاسة بل وفي النظام بكامله، وانفضاح أغراض الإعلام للقاصي والداني، وتسرطن دور الأمن في كل أجهزة الدولة لدرجة تقول معها وزيرة سابقة: إن رجال الأمن في عهد مبارك كانوا يسعون لتجنيد خادمتها ومصفف شعرها للحصول على معلومات خاصة حول أسرتها. «كان شيئًا فظيعًا وبغيضًا ووضيعًا أن يصبح الأمن على هذه الصورة المزرية».
ويعترف عبدالفتاح أن مبارك كان عليه أن يهتم أكثر بأن يشرح للناس بعض القرارات «مثل قرار بيع الغاز لإسرائيل الذي اتخذه مبارك؛ لأن قطر كانت تعرض على إسرائيل بيع الغاز بسعر أقل، ولأن مبارك أراد أن تكون إسرائيل معتمدة على مصر في شيء يخص أمنها القومي وهو موضوع الطاقة»، دون أن ينفي عبدالفتاح أن التفاصيل الإجرائية ربما كانت تحتاج لمزيد من التنظيم.
ويقول العرابى إن مبارك كانت لديه فرص كثيرة واقتراحات جيدة، كان يمكن على أساسها أن يتخذ قرارات تتوافق مع مطالب الرأي العام، سواء فيما يتعلق بالملفات الداخلية أو الخارجية ولكنه لم يقم بذلك، لأنه كان يظن فعلا أن التحركات الكبيرة لم تكن في صالح الوطن، ولأنه كان يظن أنه يعرف كل ما في صالح الوطن، وهي الصفة التي يقول بعض من تحدثوا لـ«الشروق» أنها لم تكن حاضرة على الإطلاق في توصيف مبارك لنفسه، عندما بدأ في تولي الحكم ولكنها زحفت على نفسه بصورة تصاعدية، حتى أنه كان يظن أن كل من يختلف معه يسعى للإطاحة به أو التقليل من أهمية ما يقوم به فكان يبادر بعزله، ويفتح الباب للتشهير به وإيذاء صورته.
وبحسب قول أحد من عملوا مع حبيب العادلي، آخر وزراء داخلية مبارك ــ ولمدة 17 عامًا ــ فإن هذه الصفة على وجه التحديد هي الأمر الذي استغله العادلي لممارسة قمع وحشي، نبه البعض مبارك إلى حدوثه فلم يهتم لأن العادلي كان يقول له إن ذلك لمصلحة الاستقرار، ولإغلاق الباب أمام التدخلات الخارجية. مبارك شخصية جادة ودؤوبة على العمل، ولكنها تفتقر للخيال وتخشى السقوط، وتتذكر دومًا أسباب نكسة 1967 ومقتل السادات، وانتهى به الأمر إلى حال أسوأ بكثير من جمال عبدالناصر في 1967 الذي هزم عسكريًا فطالبه شعبه بالبقاء، وحال السادات في 1981 الذي انتصر عسكريا فقتله بعض جنوده، حسبما يقول ضابط متقاعد عرف مبارك. مبارك كان ضابطًا يسمع وينفذ، وكان دائما عنده تصور أنه «لازم يمشي في خط ثابت»، هكذا يقول الضابط المتقاعد، و«الدنيا في مصر كانت بتتغير وهو مصر أنه يمشي في نفس الخط مهما كانت النتائج»، هكذا يقول معاونوه، فكانت النتيجة أن سقط. مبارك.