يسرى فودة فى كتابه «طريق الأذى» يروى تفاصيل مغامرة اختراق الحدود العراقية السورية مع عصابات تهريب المجاهدين إلى الجماعات المسلحة (4-5) - بوابة الشروق
الجمعة 13 سبتمبر 2024 2:24 ص القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العبور إلى المجهول

يسرى فودة فى كتابه «طريق الأذى» يروى تفاصيل مغامرة اختراق الحدود العراقية السورية مع عصابات تهريب المجاهدين إلى الجماعات المسلحة (4-5)

صورة التقطت ليسري فودة لاستخدامها فى استخراج بطاقة هوية عراقية فى إطار الخطة «أ» التى ألغيت بعد ذلك
صورة التقطت ليسري فودة لاستخدامها فى استخراج بطاقة هوية عراقية فى إطار الخطة «أ» التى ألغيت بعد ذلك
إعداد ــ ياسر محمود
نشر في: الإثنين 12 يناير 2015 - 10:49 ص | آخر تحديث: الإثنين 12 يناير 2015 - 3:34 م

• أبوثائر يدعو فودة لإجراء حوار خاص مع «أمير الجماعة» وحضور وتصوير المقاتلين أثناء المعارك

• سألته لماذا لا يستطيع «الأمير» أن يقابلنى فى منتصف الطريق؟ فكانت إجابته: نريد أن نثبت للعالم أننا استطعنا تهريبك إلى وسط بغداد

• بيانات «الجيش الإسلامى فى العراق» أكدت مقتل 1593 جنديًا أمريكيًا و11 ضابطًا وتدمير نحو 300 سيارة «هامر»، و46  مدرعة و15 دبابة حتى نهاية 2005

• دليلنا الخبير أبو نور نجح فى أن يضلل نفسه فوجدنا أنفسنا معه فجأة فى متاهة عظيمة

• ونحن نعدو عبر الحدود سقط زميلى وصارحنى بأنه مريض بالربو فأضطررت لحمله

قصة أخرى يدلف فودة إلى صلبها دون إهدار وقت فى المقدمات، إنها تلك الرحلة التى «يفخر بها قليلا» ووعد والدته ــ رحمها الله ــ ألا يكررها مرة ثانية ــ بحسب ما قال فى مقدمة كتابه «طريق الأذى ــ من معاقل القاعدة إلى حواضن داعش»، والصادر حديثا عن «دار الشروق». ويصف فودة فى الجزء الثانى من كتابه ــ الذى يحمل عنوان العبور إلى المجهول «كيف تشعر حين يقودك مهربون عبر حدود دولية فى رحلة غامضة بدأت بدعوة أكثر غموضًا، ممن يُعتقد أنها أقوى جماعات المقاومة فى العراق وأكثرها فتكًا فى أعقاب الغزو الأمريكي» محاولا من خلال ذلك أن يختبر «ما هو أهم من ذلك: تأثير ما وقع فى العراق على جوار العراق، وبصفة خاصة على بلاد الشام».

تبدأ رحلة فودة فى طريق عبوره إلى المجهول من بار البهو الداخلى لفندق شيراتون دمشق، حيث جلس يتابع وحيدا مباراة لفريقه فريقى المفضل، تشيلسى، فى كأس الاتحاد الانجليزى، فى ليلة من ليالى إبريل من العام 2006، حين كان فى انتظار صديقه عُدى، والذى وصل أخيرًا حاملًا «البضاعة» من سوق الحميدية: «حقيبتا كتف إحداهما طبق الأصل من الأخرى، شالان عراقيان، معجون أسنان، شامبو، بكرتا ورق تواليت، خرطوشة سجائر مارلبورو أحمر (تحولت بعدها بشهر إلى الأبيض عسى أن أقلع عنها)، وصندوق سنيكرز صغير (قوالب شيكولاتة بالفول السودانى يسد واحد منها رمقك حتى موعد الوجبة التالية، وهى التى أنقذت حياتى لأسبوع كامل أيام حرب البوسنة).

همس عُدى بينما كان يتخذ مقعده إلى جوارى، «من الأفضل أن تقصّر لحيتك كثيرًا».

كنت قد اضطررت إلى إطلاق لحيتى بناءً على نصيحة «أبو ثائر»، وهو ضابط اتصال فى إحدى كبريات فصائل المقاومة العراقية، عندما التقيته سرًّا فى دولة مجاورة لا أستطيع الكشف عنها الآن.

ويذكر فودة الوعد الذى تلقاه من أبوثائر «بإجراء حوار خاص مع «أمير الجماعة» الذى سيسمح لى أيضًا بحضور وتصوير عدد من «المشاهد الملتهبة» مع مجموعة من المقاتلين».

وحينها يسأل: «ولكن، لماذا لا يستطيع «الأمير» أن يقابلنى فى منتصف الطريق؟.. «يستطيع، بكل تأكيد»، رد أبو ثائر مفعمًا بالثقة مستاءً من سؤال يوحى ظاهره بأن «أميره» قد يكون عاجزًا عن فعل شيء ما، «لكننا نريد أن نثبت للعالم أننا استطعنا تهريب يسرى فودة إلى وسط بغداد!». انطلقت من بين أسنانى فجأة كلمة إنجليزية شهيرة مكونة من أربعة أحرف، أولها F وآخرها K. «وماذا عن هذه المشاهد الملتهبة؟ مضغوطًا نحو إجابة واضحة، خلع أبوثائر نظارته لدقيقة وطرح الأمر عاريًا وهو يهمس: «لأول مرة فى تاريخ أى تنظيم سنفتح لك الباب لحضور وتصوير جلسة يقوم بعض الإخوة أثناءها بالتخطيط لإحدى العمليات العسكرية ثم نصطحبك معنا أثناء التنفيذ». فى أقل من ثانية صدمته إجابتي: «شكرًا جدًّا، ماعطّلكش!».

أمام ضريح خالد بن الوليد فى حمص أثناء الرحلة من دمشق إلى الحدود العراقية

بداية الرحلة

فى السابعة والنصف صباح يوم الأحد 23 أبريل من عام 2006 يغادر فودة الفندق متوجها إلى «جامع صلاح الدين»، حيث كان ينتظر فى زاوية هادئة قرب المدخل الرئيس للجامع، ليمر بهما رجل فى أواسط العمر «ألقى فى اتجاهنا بأمر التحرك: «خذا تاكسى إلى ميدان... وسأراكما هناك».

لم نكد نهبط من التاكسى فى إحدى زوايا ذلك الميدان فى دمشق حتى تلقفتنا سيارة من نوع GMC (يسميها العراقيون «جيمس»). من موقعه فى المقعد الخلفى مد أبوليث ــ وهذا اسم رجلنا، الذى أنا متأكد أنه اسم حركى ــ يديه فجذب أمتعتنا قبل أن يساعدنا على الدخول بسرعة إلى المقاعد الخلفية.

«أعطونى كل ما معكم ــ بدءًا بالهواتف المحمولة»! أتى صوت آمر من المقعد المجاور لمقعد السائق أمامنا. لم يكن ليقدم نفسه، ولو حتى باسم حركى، فقررت أن أسميه «بابا». بينما انطلق السائق بنا مسرعًا.. هز عُدى رأسه مطمئنًا فبدأت فى إخراج ما فى جيوبي(..) بينما بدأ الرجل الغامض فى فك هواتفنا وتفريغها من بطارياتها (..) فيما بدا خطة مرسومة، توقفت السيارة فى مكان ما فى وسط دمشق. (..) هبط (بابا) من السيارة فى خفة.. أخذ متعلقاتنا عدا حقيبتى الكتف ونقلها جميعًا إلى سيارة أخرى انحدرت فجأة إلى جوارنا من خلف أحد الأبنية. «ليس لديكما مانع فى أن نفتش متعلقاتكما، أليس كذلك؟». هكذا صرخ همسًا بينما تحركت بنا السيارة وكأن لدينا خيارًا.

«هذا هو أبو هادى»، قالها أبوليث الذى اتخذ الآن المقعد الذى كان يشغله بابا وهو يشير إلى السائق، «سيقودنا إلى منطقة الحدود لكنه لن يعبر معنا».

عدى وأنا نستمع إلى الخطوة التالية بعد دقائق من عبور الحدود مع المهربين

إلى حمص

تطوف السيارة بفودة عدة بلدان، تبدأ بمدينة حمص بعدما كان على مرمى 190 كيلومترًا شمال شرقى دمشق، ما يعنى أنه سيتجه إلى الشمال الغربى فى الاتجاه العكسى لمسافة 150 كيلومترًا، فى حين أننا كان سيوفر 215 كيلومترًا لو كان توجه مباشرةً من دمشق شمالًا إلى حمص.

وفى مدينة حمص يستوقفه مثوى الصحابى الجليل، القائد العسكرى الأسطورة، خالد بن الوليد، الذى أسبغ عليه الرسول (ص)، لقب «سيف الله المسلول».

يستغرق فى التفكير حتى يفيق على صوت عُدى وهو يشير بيديه من نافذة السيارة: «انظر! حماه!».. «اثنين كيلو كباب واثنين كفتة»، هكذا صاح أبو ليث غاضبًا على الهاتف فى شخص ناداه باسم أبو راشد، «ومن الأفضل لك أن تُسرع فسوف نعبر فى اتجاهك بعد عشرين دقيقة». وبعد عشرين دقيقة كانت سيارتنا تقطع قلب مدينة حلب التى بدت فى تألقها كعروس ليلة الزفاف. هذا العام، عام 2006، اختيرت حلب عاصمة للثقافة الإسلامية.

وبعدها يصل إلى «القامشلى»، أبعد بلدة فى أقصى الشمال الشرقى لبلاد الشام. إلى أين من هنا إذًا؟ إلى تركيا؟ أم مباشرةً إلى العراق. وهنا يقول: «بعد مغامرة صغيرة وجدنا أنفسنا فى منزل آمن على بعد حوالى خمسة عشر كيلومترًا من حدود سوريا مع العراق. لحسن الحظ.. بتنا ليلتنا على حدود ثلاث دول مسلمة بعدما وصلت الرسالة من شبكة المهربين على الجانب الآخر: ساعة الصفر غدًا قبيل غروب الشمس.

ويرتدى فودة دشداشة (جلباب) من نوع تلك التى يستعملها العراقيون فى المناطق التى المتوقع أن يمر بها، لتنقله سيارة نصف نقل صغيرة من نوع إلى حافة الحدود. «يسترنا الآن كوخ صغير يملكه مهرب آخر اسمه أبو زيد. همس لنا أننا سنبقى هنا قليلًا انتظارًا لتلك البقعة العمياء من الزمن بين غروب الشمس وحلول الظلام، وهى فترة لا هى بالليل ولا هى بالنهار، وعندها فقط، سيكون علينا أن نهرول هرولة الخبب شبه منبطحين لمسافة أربعمائة متر تقريبًا فى اتجاه هذا الساتر الترابى الذى يقع فى منتصف المنطقة الفاصلة والذى نستطيع الآن تمييزه من بعيد. بعدها سيكون علينا أن نتسلق الساتر كى نهبط منه ونستكمل المسيرة بالطريقة نفسها على الناحية الأخرى.

«يلاّ! يلاّ!» همس أبو زيد بنبرة حاسمة متعجلة وقد اتخذ طريقه أمامنا فى بداية رحلة العبور.. «أسرع! أسرع!» التفتُّ ورائى وأنا أحث عُدى بلهجة حازمة بعد أن لاحظت اتساع المسافة بيننا. وعندما أبطأت من خطوى كى يلحق بى اكتشفت أنه، وقد بدا متعبًا، كان يستند فى مشيته إلى كتف أبو ليث.

اقتربت من عُدى للتأكد من حالته.. لدى تلك النقطة كان عُدى قد هوى إلى الأرض وهو يقول لى بصوت منكسر: «لقد خذلتُك!». اقتربت منه وأنا أتحسسه منبطحًا فارتطمت أصابعى بما شعرت أنه دمعة انحدرت على جانب من وجهه. «إيه شغل العيال ده؟!».. لكنه سرعان ما أجبرنى على الشعور بالقسوة وانعدام الإحساس عندما استطرد معترفًا: «كان ينبغى عليّ أن أخبرك من البداية أننى أعانى من مرض الربو». المهرب المحترف انفجر فى وجهي: « إذا تأخرنا كل هذا الوقت ستفشل الخطة كلها»! لكنه حتى قبل أن يكمل اعتراضه كان قد قرأ فى عينيّ أننى لم أكن لأترك صديقى خلفنا مهما كلفنا الأمر.

قضّيت الدقائق الثمينة التالية فى تدليك عُدى من صدره إلى ساقيه وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة.. حمل أبوزيد حقيبة عُدى بينما حملت أنا عُدى نفسه بمساعدة من أبوليث ونحن نمضى فى طريقنا متوقفين كل عشر خطوات لمزيد من التدليك.

وما لم نكن نعلمه حتى تلك اللحظة أن مجموعة صغيرة من السعوديين كانت من المفترض، وفقًا لتخطيط المهربين، أن تلتحق بنا عند تلك النقطة كى تعبر معنا فى صحبة المهربين. انفتح صوتى رغمًا عنى: «نعععممم!؟ ألم تحصلوا منا على ما يكفى من المال كى يدفعكم الجشع إلى...»..«وعندها تعمدت أنا أن أبالغ فى رد فعلى، بينما كانت تدور فى ذهنى فكرة مثيرة: يا لها من فرصة إذا استطعت أن ألتقى بهؤلاء المجاهدين كى أسألهم سؤالًا أو اثنين!».

بعد قليل وصلنا منهكين إلى قمة الساتر الترابى.. ارتطمت أقدامنا بالأرض أسفل التل وقد ملأتها الحشائش وأنفاس رجلين يرتدى كل منهما ثوبًا أبيض عليه إزار من الجلد البنى يمتد من الكتف اليسرى قطريًّا إلى أسفل كى يلتف حول الخصر. بدا كل منهما فى هذا اللباس النمطى كأنه حارس بدوى أو جندى هجانة.. استنهضنا أحدهما قائلًا: «ستذهبون مع زميلى بينما سأتولى أنا أمر المجاهدين». كان هؤلاء قد اختبئوا بين الحشائش أمامنا بمسافة قصيرة. لم أكن متأكدًا من رد فعله لكننى جربت حظى على أى حال: «هل لديك مانع فى أن أصطحبك إلى حيث المجاهدون؟» ولحسن حظى لم يكن لديه مانع.

ويرفض المجاهدون الخمسة الحديث إلى فودة: «نحتاج أولًا إلى تصريح من أميرنا». لكن أميرهم فى داخل العراق. من وأين ومتى؟ لا يفصحون. حتى متى سيبقون فى العراق؟ حتى «إحدى الحسنيين». هل يتوقعون أن يلحق بهم مزيد من الأخوة؟ نعم، كثير منهم.

لحظ الوصول إلى الجانب الآخر من الحدود السورية العراقية

المتاهة

يعود فودة مع مرافقه إلى احد الأكواخ، حيث ينتظره عُدى وأبوليث وأبوزيد جالسين على الأرض وإلى جوارهم وجه جديد.. «بعدها قدمنى أبوليث للوجه الجديد باسطًا فى الوقت نفسه جانبًا من تفاصيل الخطوة القادمة». «سنبيت ليلتنا هنا، وسيأخذنا أبونور فى الصباح الباكر إلى نقطتنا التالية».

أبونور فخور بما يقوم به.. وفخور بكل تأكيد بإنجازات «الجيش الإسلامى فى العراق» على مدى السنوات الثلاث الماضية. وفقًا لإحصاءات هذا التنظيم، التى لا نستطيع تأكيدها من مصادر أخرى: استطاع أعضاؤه أن يقتلوا 1593 جنديًّا أمريكيًّا و11 ضابطًا. كما استطاعوا تدمير نحو 300 سيارة من نوع «هامر»، و46 سيارة مدرعة و15 دبابة. هذه الأرقام، وفقًا لهم، فقط حتى نهاية عام 2005. ولو صح هذا، فإن الأمر لا يحتمل إلا واحدًا من اثنين: فإما أن وسائل الإعلام تغط فى سبات عميق أو تواطؤ أعمق، أو أن البيت الأبيض يقوم بمهمة «رائعة» فى التضليل. وأيًّا ما كان أيهما أو مزيجًا منهما، فإن من شأن أمر كهذا أن يزعج أبومشتاق الزبيدى.

«باعتبارى رجلًا فى الميدان، أرى بأم عينى أعداد القتلى وكم الخسائر (الأمريكية). أرفع جثة بيدى هاتين، جثتين، ثلاث جثث، بيدى هاتين، وأعرضها على العيان وأنتظر. هل يجد هذا طريقه إلى وسائل الإعلام؟ هل يعلق الجيش الأمريكي؟ وأقسم بالله لا يتحدثون عن شيء. إنها بالمئات ولكن الجيش الأمريكى لا يعلن عنها».

بعد صلاة الفجر بقليل، دلفنا فى هدوء إلى سيارة أبونور الصغيرة التى كانت مختفية وراء الكوخ. أبوليث فى مقعد القيادة وصديقه إلى جواره يتولى شئون الملاحة، بينما استترت مع عُدى فى المقعد الخلفى».

الخبير المحلى، أبونور، فى أجواء قابضة كهذه، بينما كان يحاول جاهدًا أن يقودنا بعيدًا عن الطرق والمناطق المشتبهة، نجح فى أن يضلل نفسه فوجدنا أنفسنا معه فجأة فى متاهة عظيمة. كنت قبلها قد بدأت لا أستريح له لاعتماده على التخمين أكثر من المعرفة.. لكنه فصلنى عنه عندما وجد فى نفسه من اللا مبالاة فى تقدير خطورة الموقف حدًّا دعاه إلى أن يقترح فجأة أن نتوقف لدى أقرب منزل بحثًا عن طعام.

«إيه؟ أكل؟ دلوقتي؟! إحنا عارفين إحنا فين أصلًا؟».. بدأت أعصابى تنفلت وأنا أمطره بأسئلة أدركت بعد قليل أن قدرتها على الإحباط وإثارة الذعر أكثر من قدرتها على احتواء موقف سخيف فى تجربة خطيرة. هدأت نفسى قليلًا قبل أن تنطلق مشتعلة مرة أخرى، هذه المرة عندما طلب عُدى وهو يهز كتف أبو نور بيده حثيثًا ويمسك بطنه بيده الأخرى أن يأخذنا هذا إلى أى مكان بسرعة كى يقضى حاجته. «نعععععم يا بابا؟! اعملها هنا فى العربية ومش عايز أسمع صوتك تاني»، انفجرت فيه، «واحد عايز يا كل وواحد عايز.... ونتا (ناظرًا لأبوليث) مش عايز شيشة؟». انفجروا ضحكًا بينما لم أجد أنا ما يثير الضحك.

عينة من ترسانة منير المقدح (مؤسس كتائب شهداء الأقصى) فى مخيم عين الحذوة بلبنان

تُهنا، هكذا تُهنا. ظل أبوليث يقود بنا على غير هدى، ثم بعد قليل ظل يقود بنا على غير هدى على الإطلاق. لمعت فى وسط ذلك فكرة فى ذهن أبونور فأمر أبوليث باتخاذ طريق بعينه وهو يكاد يفقأ عينه بيده التى كانت تشير إليه وهو يردد له مكررًا أن له صديقًا فى قرية سنية على مقربة من هنا. ذلك الطريق الذى أشار إليه كان يعنى، مثلما سنكتشف بعد قليل، صعود جبل سنجار. ناضلت السيارة الصغيرة القديمة المتهالكة وهى تنحر قلبها صعودًا بينما لا أتوقف أنا عن ترديد آيات من القرآن كى أكتشف أننى مازلت أحفظ منه الكثير.

الحمد لله، استمرت السيارة فى الصعود، وكلما صعدت زادت كثافة الضباب حولنا إلى أن بلغنا نقطة من الجبل لم نكن نستطيع لديها أن نرى أمامنا بأبعد من مترين. ليت الطريق كله كان كذلك. عندئذ طلبت من أبو ليث أن يركن جانبًا ودفعت عُدى إلى خارج السيارة: «اتحرك، روح... وارجع بسرعة»، بينما أسرعت أنا والباقون فى اتجاهات مختلفة نفعل الشيء نفسه.

ينطلق قائد سيارتنا أبوليث، وقد استراح كثيرًا بعد أن قضى حاجته، فى ترديد نشيد بالعامية مفعم بالعاطفة. هكذا غنّاه على مسامعنا:

«أميرِنا المُلا / عن دينُه ما تْخلّى

كل الجنود بايْعوه / أرواحِنا لله».

ولم يلبث أبونور عندئذ أن انضم إليه فى الإنشاد:

«قائدْنا بن لادن / يا مُرهب أمريكا

الشيخ أبو مصعب / أخدنا للجنة».

اختلف الطريق الآن بعد أن وصل بنا أبو نور إلى منزل صديقه المهرّب المحلى. دس بين يديه ورقة بنكنوت خضراء، مقدارها مائة دولار أمريكى، كانت كافية كى يقفز هذا مسرعًا إلى سيارة ربع نقل من نوع تويوتا ويقودها أمامنا مرشدًا. بالنسبة لنا لم تكن تلك صفقة سيئة رغم أن كل ما فعله كان أن قاد سيارته فى اتجاه الصحراء لمسافة لا تزيد على عشرة كيلومترات، لوّح لنا بعدها إلى الأمام بينما عاد هو أدراجه من حيث أتى.

الخريطة التى رسمتها بعد ذلك لتوضيح مسار الرحلة التى بدأت من دمشق وانتهت قرب بيجي

أومأ لنا أبو نور الآن مطمئنًا بأنه يتذكر الطريق من هنا. لكن الطريق من هنا كان سلسلة أخرى من العذاب لمدة ساعتين من القيادة على «اللا طريق» معجونين فى عاصفة لا نهاية لها من التراب والرمال.. إلى أن وصلنا أخيرًا إلى قرية صغيرة يقال لها «الخضر»، وهى قرية عشائرية تقع على الضفة الغربية لنهر الفرات، هنا ترجل أبو نور مصطحبًا إيانا إلى غرفة منفصلة قائمة بذاتها إلى جوار ما اكتشف الآن أنه منزله. كانت إشارة الهاتف الخلوى شبه منعدمة، لكن أبوليث استطاع بعد محاولات حثيثة أن يلتقط إشارة نحو رقم فى بغداد مستخدمًا واحدًا من البطاقات الرقمية الكثيرة التى يحتفظ بها أبو نور. أحدهم إذًا، كما نفهم من ذلك المصدر فى بغداد، سيكون فى انتظارنا غدًا صباحًا على قارعة الطريق كى يصطحبنا من منزل أبو نور إلى بلدة «بيجي» على الطريق من الموصل إلى بغداد.

أنّى لى فى تلك اللحظات أن أتخيل نفسى محتضَنًا فى منطقة من العراق صارت بعد أقل من عشر سنوات حاضنة طبيعية لمن صار تنظيم القاعدة بالنسبة لهم حمامة سلام.. داعش؟

اقرأ أيضًا:

فى طريق الأذى.. كتاب جديد يجيب عن السؤال: كيف باع أمير قطر يسرى فودة للأمريكان؟ (1-5)

كتاب يسرى فودة «فى طريق الأذى».. أسرار 48 ساعة مع قائدى «غزوة مانهاتن» (2-5)

يسرى فودة فى كتابه «طريق الأذى»: رئيس قناة الجزيرة اختطفنى من «أجواء لندن» بعد وصول الشريط الثانى من القاعدة (3-5)



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك