ساكنو الأرصفة.. يفترشون جانب الطريق.. بعد أن رمت بهم الأيام إلى شط النسيان، ليصبحوا مجرد أجساد ملقاة فى أحد الشوارع عرضة لضرب الأمطار، وعصف الشتاء، وأنياب الجوع التى لا ترحم، وإيذاء طوارق الليل، عشاء أحدهم قد يقتصر على قطعة من رغيف خبز جاف تبقى من وجبة تبرع له بها أحد المارة أو ذهب هو بنفسه يطلبها من أحد المطاعم القريبة.
مجموعة من الشباب حاولوا تقديم مثال لغيرهم يحتذى به للمساهمة فى حماية الذين أجبرتهم ظروفهم المعيشية والاجتماعية على اللجوء إلى الشوارع من برد الشتاء القارس، من خلال حملة دشنوها لتوزيع البطاطين على ساكنى الأرصفة، واختاروا أمس الأول الجمعة موعدا لها فى ذكرى رحيل الفنان التشكيلى السودانى محمد حسين بهنس، الذى مات بسبب البرد فى مثل هذا التوقيت من العام الماضى.
فاعلية انطلقت فى وقت متأخر من الليل لتصل البطاطين حقا إلى من يستحقونها، ويقع الاختيار فعلا على ساكنى الأرصفة وليس على المتسولين، بحسب كريم نور، الشاب العشرينى الذى أطلق الدعوة على موقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك» واستجاب له عشرات الشباب وحيّاه عليها المئات، لكن من نزلوا منهم فعليا لا يتجاوز عددهم 10 شبان متوسط أعمارهم لا يجاوز العشرين.
اختار الشباب من منطقة وسط القاهرة بداية لرحلتهم فى البحث عمن يستحقون الصدقة ومثلوا فئة طُحنت بين شِقّى رحا الحياة، ففى منطقة عابدين، فى السابعة مساء كان تجمعهم حتى انطلقوا فى التاسعة، ورافقتهم «الشروق» إلى منطقة باب اللوق والإسعاف ورمسيس وميدانى التحرير وعبدالمنعم رياض، وسط دهشة من شباب أمثالهم فضلوا قضاء أوقاتهم فى السينما أو الجلوس على المقاهى حتى إن أكثر العبارات التى وقعت على آذاننا منهم «ما تجيب بطانية يا أخى الجو برد إنتوا مش بتوزعوهم لله».
أسفل كوبرى السادس من أكتوبر بالقرب من ميدان عبدالمنعم رياض، ينام عم مجاهد الرجل الخمسينى، على كرتونة مغطى ببطانية خفيفة جدا لا تدفئ واضعا حذاءه أسفل رأسه، منتظرًا من يحنو عليه بشىء قسمه الله له.
الرجل الذى يبدو على وجهه سماحة تلحظها لأول وهلة حين تراه، يقول إنه من مدينة طنطا بمحافظة الغربية، وجاء إلى القاهرة بعد وفاة أخويه الاثنين، ليعمل فى دهان أبواب المحال التجارية: «بعد وفاة والدى ووالدتى وإخواتى الاتنين ما تبقاش ليا حد فى البلد، جيت على مصر، كل يوم فى منطقة وبتنقل من السيدة زينب للسيدة عائشة لوسط البلد وربنا بيرزقنى بناس ولاد حلال يدونى اللى فيه النصيب».
قسوة البرد والنوم على الرصيف فى هذا المناخ لم يُمت خفة روح عم مجاهد الذى عبر عن سعادته لعدم زواجه قائلا: «كنت هموت وأتجوز وكل يومين اتخانق مع أهلى فى البلد، لكن الحمد لله اكتشفت إنه هم كبير وربنا نجانى منه أنا كده 10 على 10».
يطالب الرجل الخمسينى الحكومة بأن تنظر إليه بعين الرأفة وأن توفر له شقة أو غرفة تحميه من برد الشتاء.
بالقرب من منطقة البورصة فى شارع صبرى أبو علم، تجلس سيدة خمسينية أبدت رغبتها فى عدم الكشف عن اسمها، بجوارها مجموعة من «علب الكشرى» التى تستخدمها كأوانى لإطعام القطط التى ترقد بجوارها فى مشهد اشتمل كثيرًا من معانى الإنسانية، «أنا ما بعملش حاجة القطط ربنا اللى بيرزقهم من خلالى».
تقول السيدة إن زوجها طلقها فى أواخر عهد الرئيس الأسبق أنور السادات وبداية عهد الأسبق حسنى مبارك، وطردها من الشقة فى السيدة زينب، لجأت بعدها إلى الرصيف، حتى ابنها الوحيد الذى قالت عنه إنه تزوج الآن وصار رجلا، لا يسأل عنها.
تلاقى السيدة أذى كثيرًا من المارة من خلال طوارق الليل من الشباب غير الواعين أو التلفظ بعبارات بذيئة ويطلبون تصرفات غير أخلاقية، وردا على مطلب من الحكومة أو الرئيس قالت: «أنا مش عايزه أى حاجة لا من الحكومة ولا الرئيس أنا عايزة الناس بس يتركونى فى حالى، تعبت من أذى البشر».
عند مخرج محطة مترو محمد نجيب، يرقد رجل مُسن لا يعى بمن حوله فقط يمد يده خارج الغطاء المهلهل تنتظر صدقة من يرق لحاله، وأمامه «فرش مناديل»، حاولنا الحديث معه إلا أنه كان فى عالم آخر غير آبه بأقدام المارة وما تلقيه عليه من تراب وما تسببه من أرق، حيث غطاه أحد الشباب وانصرفنا.