صورة ضبابية قاتمة.. ترسمها ملامح العطش الذى أصاب معظم بلدان العالم الفقيرة والغنية على السواء، تلك هى الصورة التى اعتلتها إحصائيات وأرقام ناقشها المنتدى العالمى السادس للمياه الذى انعقد فى مدينة مرسيليا الفرنسية الشهر الماضى، تشير إلى تفاقم أزمة المياه فى العالم التى انتقلت من مرحلة الفقر المائى إلى الشح فى معظم الدول.
فى مرسيليا، مدينة المياه كما يطلق عليها الفرنسيون، يقع المجلس العالمى للمياه، تلك المؤسسة التى تدرس وتناقش وتجادل وتضع الخطط واستراتيجيات التعامل مع المياه وتدفع بها لزعماء وقادة العالم، مستغلة فى ذلك الأصوات الشعبية والمجتمع المدنى للتأكيد على ضرورة التعامل مع مشكلات المياه ليس فقط على المستوى التقنى أو الفنى ولكن من الناحية السياسية والاجتماعية الاقتصادية.
وبداخل هذا المبنى الذى يحمل هموم كل من يعانى بالعطش فى أنحاء العالم، التقت «الشروق» رئيس المجلس العالمى للمياه، لوى فاشون، ليفسر واقع الأمن المائى الذى وصل إليه العالم، وما يمكن أن يقدمه المجلس العالمى للمياه لحل مشكلات الأمن المائى لدى مصر وبشكل خاص أزمتها فى حوض النيل.
«الوضع أصبح سيئا للغاية» بهذه العبارة الصادمة بدأ فاشون حديثه عن أوضاع الأمن المائى فى العالم، لكن بهدوء وثقة بدأ يشرح ملامح الأزمة والتى أكد إمكانية التغلب عليها فى حالة دراستها والاهتمام بها، فى الوقت الذى بات المستقبل السياسى للقادة والزعماء مرهون بالحفاظ على الأمن المائى، بعد أن أصبحت قضايا المياه مجال التنافس السياسى.
يقول فاشون إن ثلاثة أسباب كانت وراء تفاقم مشكلات المياه فى العالم أولها الزيادة المطردة فى عدد السكان، حيث بات من المتوقع أن يستقبل العالم مليار نسمة إضافية فى السنوات العشر القادمة، فضلا عن مشكلات التلوث الناتجة عن الأنشطة السكانية والتى تهدد الموارد المائية بالدرجة الأولى، كذلك مشكلة التغيرات المناخية، فعلى الرغم من عدم التأكد من نتيجة التغيرات المناخية على الموارد المائية إلا أن هناك العديد من النماذج الرياضية التى تؤكد خطورة التغيرات المناخية، لذا نشعر بأن نتيجتها ستكون صعبة للغاية.
يؤكد فاشون أن الأمن المائى الآن أصبح بحاجة إلى بلورة سياسات مائية جديدة يلتزم بها العالم كله، لن تقتصر هذه السياسات على البحث عن طرق جديدة للحصول على المزيد من مصادر المياه، ولكن يجب التأكيد على إدارة استخدام المياه وتعديل سياسات الاستخدام العادل والمنصف للمياه، فالحل الأفضل هو «استخدام أقل وإدارة أفضل للمياه».
يوضح فاشون أن المجلس العالمى للمياه يرى أن العالم لا بد أن يكون يدا واحدة، حيث توفير أرضية مشتركة لوضع الحلول التى يمكن أن يقف عليها المسئولون حول العالم، لذلك نعقد المنتدى العالمى للمياه كل ثلاث سنوات ليجلس المهتمون فنيا وسياسيا من جميع دول العالم تحت شعار «حان وقت الحلول»، لمحاولة تقدير حجم المشكلة والاحترام المتبادل، وتشجيع المهتمين بمجالات المياه حول العالم بوضع الحلول ودفع المسئولين لتنفيذها، وتعميم التجارب الناجحة على مستوى العالم.
وأكد فاشون أنه لا توجد وصفة سحرية لحل جميع مشكلات المياه يمكن تعميمها على جميع الدول، ولا يوجد حل موحد لكل قضايا المياه، فهناك بدائل يمكن الاعتماد عليها فى بلد مثل مصر ولكنها لن تكون قابلة للتنفيذ فى بلدان أخرى كأوروبا أو أفريقيا.
يؤكد فاشون أن المجلس لا تقتصر سياسته على تعميم تجارب مواجهة مشكلات المياه فقط، لكنه يمثل دورا مهما على المستوى السياسى، من خلال تضمين مفهوم الأمن المائى ضمن قضايا الأمن القومى للسياسيين على مستوى العالم، وهى ليست قضية جديدة، فمصطلح الأمن المائى تواجد منذ أكثر من 10 سنوات، بعد معاناة العديد من الدول من نقص الموارد المائية، والتى كانت سبب فى حرمانها من التنمية.
وأضاف فاشون أنه يسعى لنقل قضايا الأمن المائى إلى المستوى الأعلى على قائمة الأجندة السياسية، والتعامل معها على أنها استراتيجية أولية للتحرك بشأن اتخاذ قرارات فعلية.
«قد تكون الثورات هى لحظات فاصلة فى حياة الشعوب للحصول على الديمقراطية والتخلص من الحكم الديكتاتورى والحصول على الحرية، ولكن يجب أن تدرك الدول شعبا وحكومة أن المياه هى الحياة، ولن يكون لها أى مساع نحو التنمية دون توافر المصادر اللازمة للمياه»، هكذا علق فاشون على أهمية إدراك الدول العربية التى شهدت ثورات الربيع العربى لخطورة مشكلات المياه بها فى حالة الرغبة فى تنمية شعوبها.
يقول فاشون: «أثق أنه بعد أشهر قليلة، ستعود الأزمة من جديد وسيدرك المصريون خطورة وضع الأمن المائى فى بلادهم وسيكون على الحكومة سرعة التحرك حيال هذه الأزمة التى باتت تهدد الأمن القومى لمصر».
يضيف فاشون أن حل القضايا الداخلية للمياه هى مسئولية كل دولة وليست مسئولية المجلس العالمى للمياه، الذى يقوم فقط بتقدم التسهيلات والنصائح لبعض التوترات الإقليمية مثل مشكلة حوض النيل.
وحول أزمة حوض النيل يقول رئيس المجلس العالمى للمياه، إن الجميع يعلم الآن أن الموقف الحالى بين دول حوض النيل أصبح معقدا، فى الوقت الذى يجب أن نعترف فى جميعا بأحقية شعوب دول حوض النيل فى التنمية الحقيقية القائمة على الموارد المائية من نهر النيل، ليس فقط مصر والسودان، لكن هناك آخرين أصبحت أعينهم تؤول إلى النهر، وهو ما سيكون له تداعيات جديدة على العلاقة بين الدول الواقعة على نهر النيل، لذلك فنحن ندعوهم إلى المزيد من الحوار لتقارب وجهات النظر فيما بينهم والوصول إلى حل سريع للأزمة القانونية القائمة بينهم، للوصول إلى أفضل طريقة لإدارة مياه نهر النيل بما يحقق المنفعة للجميع. ليس لتوجيه أى دولة تجاه حل معين أو فرض طريقة للحوار عليهم،
وأكد فاشون أن المجلس العالمى للمياه مستعد لتقديم جميع التسهيلات واقتراح الحلول على دول حوض النيل ليكون بمثابة قناه اتصال بين دول المنابع ودولتى المصب، لكنه لا يستطيع حل الأزمة العالقة لأن الدول وحدها التى تملك قرار التفاوض والحوار للوصول إلى حلول واقعية وقابلة للتطبيق فيما بينهما.
ورفض فاشون الإفصاح عن كيفية التسهيلات التى يمكن أن يقدمها المجلس العالمى للمياه لدول حوض النيل والتى ستكون فى صالح كل الدول دون تغليب مصلحة أى جانب، قائلا: «هذه القضايا تتطلب نوعا من السرية لا يمكن الإعلان عنها إلا على مائدة المفاوضات، ليتمكن كل طرف من مفاجأة الآخر والحصول على أقصى استجابة لمتطلباته»، لكنه أكد أن دعوته للحوار ستكون خارج نطاق مبادرة حوض النيل بمشكلاتها القانونية والمؤسسية.
كان للمجلس العالمى للمياه دورا مهما فى إعادة الحوار بين الدول المطلة على نهر الفرات، وحل الخلاف القائم بين سوريا وتركيا والعراق بشأن الحصص المائية، بعد مفاوضات استمرت ثلاث سنوات انتهت بموافقة تركيا على مضاعفة حصة سوريا والعراق إلى الضعف.
اختتم فاشون حديثه بالمثل الفرنسى الذى يقول: «إذا تشارك الأغنياء والفقراء معا فى أزمة واحدة.. سيكون هناك حل لها».