على أعمدة تشبه تلك التى أقام عليها أمنحتب الثالث معبدالاله آمون رع، وقف المبنى المميز على الضفة الشرقية من النيل محاذيا المعبدالقديم.
هناك فى طيبة القديمة كان معبد الاقصر مركز العبادات، وعلى نفس الخط قامت أساسات مبنى المحكمة الدستورية العليا على مساحة 4 آلاف متر مربع، وعدد كبير من المسلات الفرعونية المزينة بزهرة اللوتس والبردى، لتكون فصلا دستوريا بين السلطتين التشريعية والتنفيذية فيما يصدر عنهما من قوانين أو قرارات.
فى عام 1920 ألقى المستشار برنتون رئيس محكمة الاستئناف المختلط محاضرة بعنوان «مهمة السلطة القضائية فى المسائل الدستورية بالولايات المتحدة ومصر»، كانت تقوم على الاعتراف بحق المحاكم فى مراقبة دستورية القوانين التى تطرح عليها، والامتناع عن تطبيقها فى النزاعات المختلفة، دون التعرض للقانون ذاته أو القضاء ببطلانه.
واستمر الجدل الفقهى والقانونى حول منح ذلك الحق للمحاكم، حتى تم وضع دستور 1923 الذى تخطى هذا الجدل ولم يتطرق فى مادة واحدة منه إلى طريقة واضحة لتحديد سلطة القضاء فى رقابة دستورية القوانين.
أمام محكمة جنايات الاسكندرية فى عام 1924، وجهت النيابة العامة تهمة نشر أفكار ثورية لكل من محمود حسن العرابى وأنطون مارون وآخرين، وحكمت المحكمة عليهم حضوريا بالسجن ثلاث سنوات.
طعن المتهمون على الحكم باعتبار أن المادة 151 من قانون العقوبات مادة مقيدة لحرية الرأى المكفولة بنص المادة 14 من الدستور، وكان هذا الطعن هو الأول من نوعه الذى يختصم مواد القانون أمام القضاء بدعوى عدم دستوريتها.
بعد أكثر من 10 سنوات أقرت محكمة القضاء الادارى فى 1948 حق المحاكم فى الرقابة على دستورية القوانين عندما قالت «ليس فى القانون المصرى ما يمنع المحاكم المصرية من التصدى لبحث دستورية القوانين، ولأن الدستور أناط بالسلطة القضائية مهمة الفصل فى المنازعات المختلفة، فإنها عندما تتعارض أمامها قاعدتان لابد للمحكمة أن ترجح إحداهما، فإذا تعارض قانون عادى مع الدستور وجب عليها أن تطرح القانون العادى وتهمله وتغلب عليه الدستور، وهى فى ذلك لا تعتدى على السلطة التشريعية».
ورغم تلك الأحكام خلت الدساتير المتعاقبة بدءا من دستور 1923 وحتى دستور 1964 المؤقت، من نص ينظم مسألة الرقابة على دستورية القوانين سواء بتقريرها أو بمنعها، بعد محاولة واحدة باءت بالفشل كانت ضمن ما يسمى بمشروع لجنة الخمسين لوضع دستور عقب ثورة يوليو، وكان النص الوارد فيها يوصى بإنشاء محكمة عليا دستورية يناط بها وحدها مهمة رقابة دستورية القوانين، إلا أن رجال الثورة رفضوا المشروع وعهدوا إلى بعض المتخصصين بإعداد مشروع دستور يتماشى مع أهداف الثورة.
«أقسم بالله العظيم أن احترم الدستور والقانون، وأن أؤدى عملى بالأمانة والصدق»، كان أول يمين يحلفه المستشار أحمد ممدوح عطية رئيس المحكمة الدستورية العليا أمام رئيس الجمهورية فى أكتوبر 1979، بعد أن تضمن دستور 1971 نصوصا واضحة تنظم رقابة دستورية القوانين وأوكل أمر هذه الرقابة إلى المحكمة. وقد اعتبر الدستور تلك المحكمة هيئة قضائية مستقلة قائمة بذاتها، «تتولى دون غيرها مهمة الفصل فى دستورية القوانين واللوائح، وتفسير النصوص التشريعية».
توالى على رئاسة المحكمة عدد من كبار المستشارين من بينهم المستشار فاروق سيف النصر وزير العدل الأسبق، والمستشار الدكتور فتحى عبدالصبور عبدالله، والمستشار محمد على راغب بليغ، والمستشار ممدوح محيى الدين مرعى وزير العدل الأسبق، والمستشار ماهر سيد إبراهيم عبدالواحد النائب العام السابق.
ولعل أزهى فترات المحكمة الدستورية العليا كانت فى التسعينيات عندما رأسها المستشار الدكتور عوض محمد عوض المر لفترة استمرت 7 سنوات، كانت من أكثر فترات القضاء الدستورى نشاطا فى مصر.
توغلت المحكمة فى العديد من المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأصدرت أحكاما متعددة فى مجال مباشرة الحقوق السياسية ترتب عليها حل المجالس التمثيلية المشكلة طبقا لنصوص قضت المحكمة بعدم دستوريتها.
وأرست المحكمة وقتها مبدأ المساواة أمام القانون، فأصبح لا فرق بين الأشخاص ذوى المراكز القانونية المتكافئة، كما أعلنت المحكمة عن الضمانات الخاصة للأفراد فى المجال الجنائى، والضمانات المتعلقة بحماية ممتلكات الأفراد.
إلا أن عددا من المراقبين والقانونيين اعتبروا الفترة التى تولى فيها المستشار ممدوح مرعى رئاسة المحكمة، والتى بدأت عام 2003، إلى أن أصبح مرعى وزيرا للعدل فى 2006، بداية تهميش دور المحكمة الدستورية المهم، وتطويعها لصالح النظام السابق.
ورغم ذلك أصدرت المحكمة أحكاما هامة فى تلك الفترة على رأسها الحكم بعدم دستورية التعديلات التى أدخلت على قانون مجلس الشعب والتى نصت على الحرمان الأبدى من الحق فى الترشيح لعضوية مجلس الشعب، لكل من تخلف عن أداء الخدمة العسكرية الإلزامية.
بينما غابت أحكامها فى قوانين أخرى ثار حولها جدل كبير فى الشارع المصرى فور صدورها مثل قانون الضرائب العقارية.
تولى المستشار ماهر عبدالواحد رئاسة المحكمة خلفا للمستشار ممدوح مرعى، وهو ما اعتبره عدد من أساتذة القانون الدستورى وأعضاء المحكمة السابقين مجاملة واضحة للنائب العام السابق، لأنه جاء من خارج أعضاء المحكمة والمحاكم المقاربة لها.
فى عامى 2003 شهدت المحكمة الدستورية العليا تولى أول امرأة مصرية منصبا قضائيا، وكانت المستشارة تهانى الجبالى التى تدرجت حتى أصبحت الآن نائب رئيس المحكمة.
ولأن اختيار رئيس المحكمة وفقا للدستور كان من مهام رئيس الجمهورية، ولأن وزير العدل الأسبق ممدوح مرعى اشتهر منذ ظهوره على رأس المحكمة الدستورية العليا بأنه مستشار الرئيس السابق الأمين، كانت ترشيحاته تلقى قبولا فوريا، فاقترح تولى المستشار فاروق سلطان رئاسة المحكمة بعد خروج ماهر عبدالواحد منها، وأصبح تشكيل المحكمة التى تعتبر أصغر الهيئات القضائية عددا، بتسعة عشر قاضيا رئيس المحكمة وثمانية عشر نائبا، وهيئة مفوضين تتكون من خمسة رؤساء وثمانية أعضاء هو رئيس المحكمة المستشار فاروق احمد سلطان مكى، وعين بالمحكمة بتاريخ 1/7/2009، وكان يترأس من قبل محكمة جنوب القاهرة الابتدائية وكان يشرف على انتخابات جميع النقابات المهنية فى مصر.
عدد آخر من نواب رئيس المحكمة وأعضائها قام مرعى بترشيحهم لهذا المنصب منهم المستشار بولس فهمى اسكندر بولس الذى عين بالمحكمة فى 2010، وكان مساعدا لمرعى، وبرز اسمه أثناء أزمة خبراء وزارة العدل مع الأخير عندما اعتصموا على سلالم الوزارة لمدة 60 يوما.
المستشارالدكتور حسن عبدالمنعم خيرى البدراوى أيضا دخل الدستورية فى 2010 بعد أن كان مساعدا لوزير العدل الأسبق للتشريع وهو الذى رشحه لعضوية المحكمة.
ولم تخل هيئة المفوضين بالمحكمة من توصيات مرعى حيث قام بترشيح المستشار حاتم حمد بجاتو ليعين رئيسا بهيئة المفوضين فى 2008، وكان يعمل عضوا فى المكتب الفنى لوزير العدل الأسبق، ومحمد عماد النجار، وهو نجل عماد النجار مساعد وزير العدل للتشريع الأسبق، وطارق عبدالجواد شبل، الذى كان عضوا بالمكتب الفنى لممدوح مرعى. وهو ما اعتبره كثيرون وسيلة ليحكم النظام السابق قبضته على المحكمة الدستورية العليا.
عقب الثورة كانت التحديات التى واجهت المحكمة كبيرة على رأسها إعمال المادة الدستورية التى تقضى بتولى رئيس المحكمة الدستورية ادارة شئون البلاد فى حالة غياب الرئيس وحل مجلس الشعب، الا أن كثيرين استبعدوا إمكانية اللجوء إلى هذا الحل، ربما لأسباب كانت تتعلق برئيس المحكمة الحالى.
وبين قانون العزل، وقانون الانتخابات البرلمانية والرئاسية، والاعلان الدستورى تقف اليوم المحكمة موقفا قد يغير من تاريخ البلاد مرة أخرى، وقد يؤكد أن المحكمة تحتاج إلى تغيير وأن مطلب تعديل بعض أحكام قانون المحكمة مطلب ملح.
«لقد اصطفاها الدستور حارسا يوقن أنه لن يتهاون فى وجوب الالتزام بتطبيق ما تضمنه من أحكام، خاصة ما تعلق منها بالحريات والحقوق والمقومات الأساسية للمجتمع، ومن حق شعب مصر أن يهنأ بالا إلى ان أحدا لن يمس دستوره الذى قبله وأعلنه ومنحه لنفسه، وإلى أن سيادة القانون ستبقى طودا شامخا وأساسا للحكم فى دولة العلم والإيمان بما يحقق صالح مصرنا الخالدة العريقة عبر آلاف السنين»، هكذا قال المستشار أحمد ممدوح عطية فى افتتاح الجلسة الأولى للمحكمة الدستورية العليا قبل أكثر من ثلاثين عاما.