عاد مصطلح السلفية الجهادية بعد ثورة 25 يناير ليطرح نفسه بقوة، خاصة وأن عددا من أعضاء التيار الجهادى خرج من السجن ولم يقبلوا بعملية المراجعات الفكرية التى كانت الجماعة الإسلامية قد أجرتها وتلك التى أجراها أحد أهم مؤسسى الفكر السلفى الجهادى عبدالقادر عبدالعزيز، المعروف بالدكتور فضل، والذى ألف كتاب «العمدة فى إعداد العدة» وهو كتاب يوضح فقه معسكرات المجاهدين فى أفغانستان واعتمد فيه على فقه الجهاد فى كتب السلف القديمة، بيد إنه ومع حدوث أزمة فى علاقته بتنظيم الجهاد بعد كشف تنظيم طلائع الفتح عام 1993 والقبض على ما يقارب الألف شخص من أعضاء التنظيم فى ليلة واحدة ألف كتابا اسمه «الجامع فى طلب العلم الشريف» وفيه بدأ ينتقل بالفكر السلفى الجهادى إلى تكفير أعيان الطائفة الممتنعة، وهنا فإن التيار السلفى الجهادى لم يعد سلفيا لأنه انتقل إلى مربع التكفير ولم يعد جهاديا لأنه عاد للعنف العشوائى فى مواجهة الشرطة وفى مواجهة الدولة المصرية، ومن ثم نحن أصبحنا إزاء فكر سلفى جهادى ذى طابع تكفيرى اقتحامى يستشرف المواجهة والقتال فى الداخل مع نظام حكم ينطلق من رغبة فى إقامة الشريعة كما أن رئيس الدولة ينتمى لتيار إخوانى.
طرح مصطلح السلفية الجهادية بقوة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، والتى استطاع فيها تنظيم قاعدة الجهاد أن يضرب أمريكا فى الداخل ــ واشنطن ونيويورك، وكان تنظيم الجهاد المصرى الذى يعد المؤسس الأول للفكر السلفى الجهادى قد اندمج مع تنظيم القاعدة التى نشأت عقب الجهاد فى أفغانستان فيما يعرف بقاعدة الجهاد عام 1998 وأعلنوا ما أطلقوا عليه «الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين».
والسلفية الجهادية تعبير اتخذه الباحثون لكى يميزوا بين معتنقيها وأنصارها وبين السلفية التقليدية، ورغم أن بعض أتباع هذا التيار يرفضون هذا المسمى إلا أنه أصبح عنوانا لذلك التيار وقبل به كبار منظريه مثل أبومحمد المقدسى الأردنى الذى قال: أحب التنويه إلى أننا لم نتسم بهذا الاسم وإنما نعتنا به من سمانا من الناس لتمسكنا بما كان عليه السلف الصالح من الاعتقاد والعمل والجهاد»، وكان من ابرز من أطلق على هذا التيار ذلك المصطلح الأردنى أكرم حجازى الباحث المتخصص فى شئون السلفية الجهادية وتنظيم القاعدة والذى يميل للتيار السلفى الجهادى.
وتستلهم السلفية الجهادية عالم السلف والقرون الثلاثة الأولى من الهجرة وربما الأربعة فى كل التصرفات وهى ترى أن العالم المعاصر لن ينصلح إلا بما صلح به عالم السلف الذى يعتبرونه هو المرجعية لهم، ترى السلفية الجهادية أن القرون الثلاثة الأولى أو الأربعة هى خير القرون ومن ثم فإنهم يلتزمون بفهم السلف للكتاب والسنة والعمل بهما وهنا فإن السلفية الجهادية تتفق مع بقية السلفيات الأخرى مثل التقليدية والعلمية وغيرها، بيد إنهم يعتبرون أن سلفيتهم تقوم على مقاومة الحكام الطواغيت والتأسيس لمفهوم الولاء والبراء الذى يقوم على منابذة هؤلاء الحكام والقيام فى وجههم بالسلاح من أجل أن تكون الحاكمية العليا لله وهنا فإن مبدأ الحاكمية هو مبدأ مركزى عند السلفية الجهادية، وهم يرون تحقيقه بحمل السلاح فإن القوة والقتال هى الأداة الوحيدة لتحقيق ذلك فالجهاد عندهم لا يعنى المعنى الواسع الذى قد تدخل فيه معانى بذل الجهد فى تحقيق الخير للناس والأوطان ولكن له معنى محدد هو القتال ويستدلون على ذلك بقوله تعالى «فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال».
وهنا فإن السلفية الجهادية أرادت أن تنتزع لنفسها مكانة بحد السيف ومن خلال إعلان المواجهة مع النظم الحاكمة باعتبارها نظما طاغوتية مرتدة لا تحكم بالشريعة وأنها أداة من أدوات المؤامرة العالمية على العالم الإسلامى، هنا المركز الذى تنطلق إليه ومنه السلفية الجهادية هى السلطة، فحين تتغير السلطة والحاكم والحكم فنحن أمام الفرصة التاريخية لتغيير المجتمع.
جذور التيار السلفى الجهادى
تعود الجذور الأولى للتيار السلفى الجهادى من ناحية المسيرة الحركية إلى تنظيم الجهاد الإسلامى تبلور مع تحولات وتطورات الحركات الجهادية التى سبقته، وتعد حركة الفنية العسكرى هى أول حركة تتبنى الجهاد بمعنى القتال أو التغيير بالقوة المسلحة لنظام سياسى معاصر اعتبرته مرتدا عن الحكم بالشريعة ولا يطبقها، قاد هذه الحركة صالح سرية الفلسطينى الذى تأثر بأفكار حزب التحرير وبأفكار الإخوان المسلمين فى العراق ولكنه انتهى إلى أن مصر هى المركز وأن تحرير القدس لا يمكن أن يتم إلا بتحرير مصر أولا من خلال الانقضاض على السلطة السياسية.
تعرف صالح سرية على الحاجة زينب الغزالى التى أوصلته مع شباب كانوا يتوافدون إليها على رأسهم المرحوم طلال الأنصارى الذى كان واسع الحركة فى منطقة المدينة الساحلية بالإسكندرية، كانت فكرة الحاكمية هى الفكرة الأساسية لدى هذا التيار الجديد الذى يمكن أن نقول إنه الطبقة الأولى من طبقات التأسيس للفكر السلفى الجهادى، كانت هناك مجموعات أخرى متعددة تحمل الفكر السلفى الجهادى ولكنها صغيرة ومغلقة على نفسها لحد كبير منها مجموعة «إسماعيل طنطاوى» والتى كان يتبعها فى ذلك الوقت الشاب أيمن الظواهرى والشاب عصام القمرى وعلوى مصطفى وغيرهم، كانت هزيمة 1967 إيذانا بصعود هذا التيار الذى قدر له أن يرسخ أقدامه مع فترة الإحياء الإسلامى الكبير فى السبعينيات مع مقدم السادات إلى السلطة.
كانت رسالة الإيمان التى كتبها صالح سرية أحد المصادر التى استلهم منها ذلك التيار أفكاره وخاصة فيما يتعلق بالموقف من الدولة العلمانية وضرورة القضاء عليها، بيد إن أفكار صالح سرية كانت تقبل باختراق الدولة أو التحالف مع من يسعى للسيطرة عليها ودعمه ممن ينتهجون النهج الإسلامى وكانت الفكرة التى يحملها هى فكرة الانقلاب العسكرى.
سوف يأتى بعد صالح سرية فلسطينى آخر هو محمد سالم الرحال الذى كان يدرس بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر وكان قد تأثر هو الآخر بأفكار حزب التحرير وتبنى فكرة الانقلاب العسكرى باعتبارها أداة بيضاء فى تقديره لا يترتب عليها مفاسد الدماء التى قد تنتج عن الثورات.
لم يكن التيار السلفى الجهادى تنظيما بالمعنى الحقيقى بمعنى أن الفكرة الجهادية هى التى تتحكم فى سيرته ومسيرته أكثر من التنظيم أى أن الأيديولوجية هى الجاذب الرئيسى للأفراد، ولأن التيار السلفى الجهادى لم يعط التنظيم حقه من الأفكار بمعنى أنه لم يطرح السؤال حول كيف يبنى تنظيما؟ فقد اتسمت أغلب التنظيمات بالهشاشة خاصة أنها كانت عنقودية، فالفنية العسكرية فشلت لتسرع الشباب وضغطهم على قائدهم، والمجموعات الجهادية بعد الفنية العسكرية قررت أن تحل تنظيمها وذلك لاختراق أجهزة الأمن لها ومع مجىء عام 1981 وتحالف المجموعات الجهادية الثلاث التى كانت على الساحة وتمكنهم من قتل السادات، بيد إن التنظيم الهش الذى فرضته اللحظة الراهنة لم يقدر له أن يعيش داخل السجن، وهنا فقد انشق تنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية فيما بعد وافترقت بهما السبل، ورغم أهمية الفكرة فإن العمق للتأسيس لهذه الفكرة لم ينل حظه من أحد من أغلب المنتمين لتنظيم الجهاد بسبب عدم نضج وقلة الخبرة للقائمين عليه لم يكن هناك كتاب واحد يعبر عن الفكرة سوى الكتيب الصغير الذى ألفه المهندس محمد عبدالسلام فرج وهو كتاب «الفريضة الغائبة»، وفى الواقع فإن الكتاب رأى أن الطرق المختلفة للتغيير التى تراها الجماعات الأخرى لن تنجز ما يريده أصحاب المشروع الإسلامى، ومن ثم فالجهاد بمعنى القتال أو المواجهة العضوية هو الوسيلة الوحيدة التى يمكنها أن تنجز ذلك المشروع، وفى الحقيقة فإن المهندس عبدالسلام فرج أعاد نشر العديد من المؤلفات التى طرحها شيخ الإسلام «بن تيمية» فى مجموع الفتاوى خاصة فكرة «الطائفة الممتنعة»، وتعنى أن مؤسسات الدولة الحاكمة هى مؤسسات تمكن الدولة من حماية العلمانية والدولة الجاهلية وهى التى تمكنها من عدم تطبيق الشريعة الإسلامية، وهنا فإن تلك الطوائف مثل القضاة والشرطة والجيش والتعليم هى مؤسسات ممتنعة يجب قصد أفرادها بالقتال حتى لو كانوا مسلمين وهنا جاءت فكرة التترس بمعنى أنه لو تترس العدو بمسلمين ولم يمكن قتاله أو قتله إلا بقتل المسلمين فهنا يقتل المسلمون ثم يبعثون على نياتهم.
هنا إحدى المشكلات الكبرى التى واجهت التيار السلفى الجهادى هى أنه طرح نفسه بديلا للأمة لكى يقوم بمهام انتزاع السلطة من يد الظالمين والمرتدين وإعادتها لأصحابها الأصليين، كما أن إحدى المفارقات الكبرى فى هذه القصة أن الجماعة الإسلامية بدأت التأسيس لفكر التنظيم من داخل السجن فكتبت ميثاق العمل الإسلامى وحتمية المواجهة وأصناف الحكام وغيرها من الدراسات والأبحاث وهو ما يعنى أن الحركة سبقت الفكرة والعاطفة سبقت العقل والفعل سبق التخطيط.
عاد العنف مرة أخرى حين اندفعت إليه الجماعة الإسلامية بعد مقتل متحدثها الرسمى فى الشارع علاء محيى الدين»، وقتل الدكتور رفعت المحجوب، ومع بدء قصد السياحة بالاستهداف من جانب الجماعة الإسلامية بدأ الصراع المفتوح بين النظام البائد وبين الجماعة الإسلامية، ودخلت الميدان جماعة الجهاد هى الأخرى رغم أن مناهجها كانت تقوم على التغيير الشامل وليس المواجهات العشوائية المحدودة، وهنا جرت محاولة قتل حسن الألفى وقتل صفوت الشريف وغيرهما من رموز الدولة فضلا عن محاولة قتل مبارك نفسه فى أديس أبابا عام 1995.
عولمة السلفية الجهادية
مع الذهاب لعالم أفغانستان لتحريرها من العدوان السوفييتى الشيوعى بدأ تبلور مفهوم السلفية الجهادية مع عبدالله عزام، ومع أسامة بن لادن ومع مجىء المجموعات السلفية الجهادية من كل أصقاع الأرض لتقاتل فى أفغانستان فى ظل سياق دولى مشجع لذلك من أجهزة مخابرات عالمية ودولية، هذه المجموعات السلفية الجهادية التى قدمت من أنحاء العالم الإسلامى اقتربت من بعضها وكونت ما عرف باسم الشبكة السلفية الجهادية، المشكلة هنا أن اقتراب المجموعات السلفية الجهادية من الأمريكان فى معارك أفغانستان جعلتهم يكتشفون أن الخطر هو أمريكا وليس النظم الداخلية المستبدة التى تأتمر بأمرها وتحتمى بقوتها ومن هنا بدأ ظهور مفهوم العدو البعيد والانتقال إليه من العدو القريب، وتلك كانت نقلة كبيرة فى فكر السلفية الجهادية أنها تقف فى مواجهة ما يعتبر عدوانا على العالم الإسلامى من خارجه كما حدث فى أفغانستان والعراق وكما حدث فى الشيشان وفى البوسنة والهرسك.
اقترح أسامة بن لادن أن توجه الجهود إلى المركز الذى يرى أن العالم الإسلامى هو عدوه البديل والذى يتبنى صدام الحضارات مع العالم الإسلامى والذى حرك الجيوش فعلا لضرب وحدة العالم الإسلامى واحتلال أراضيه، وهنا بدأ التركيز فى المواجهة مع العالم الخارجى من خلال عمليات استهدفت المصالح الغربية سواء فى كينيا وتنزانيا أو فى اليمن أو فى الصومال وبالطبع عملية 11/9، وهنا دشن المحافظون الجدد ما أطلقوا عليه الحرب على الإرهاب.
بلغت السلفية الجهادية ذروتها مع سعى «بن لادن» الحثيث لجعل تنظيم القاعدة مركزا لجذب تحالفات تيارات سلفية أخرى فى العراق كالتوحيد والجهاد الذى كان يقوده أبومصعب الزرقاوى، والجماعة السلفية للدعوة والقتال فى الجزائر أصبحت جزءا من تنظيم القاعدة، وهكذا ظهر ما أطلق عليه «أخوات القاعدة».
تحدى الثورات العربية
لاشك أن تفجر الثورات العربية طرح نموذجا جديدا مختلفا عن الذى تطرحه السلفية الجهادية، فالشعوب انتقلت من الهامش إلى المركز وانتقلت من السلبية إلى الفعل وخرجت بالملايين فى الميادين واستطاعت أن تسقط أنظمة عاتية مستبدة كنظام بن على فى تونس ونظام مبارك فى مصر، ومن ثم فإن نموذج التغيير الذى طرحته السلفية الجهادية لم يعد له البريق الذى كان له مع تصاعد التهديد الغربى لبلدان العالم الإسلامى، وأصبح ممكنا تغيير النظم المستبدة عن طريق قوة الملايين وقوة الشباب والشعوب والطبقة الوسطى وليس عن طريق التنظيمات السرية أو عن طريق القتال العضوى أو عن طريق التفجيرات والمواجهات الدموية.
لاحظنا أن هناك علاقة عكسية بين نجاح نموذج الثورات العربية وبين تراجع السلفية الجهادية وتنظيم القاعدة، ومن ثم فإن التعثر الذى واجه الثورات العربية هو الذى مكن السلفية الجهادية من التقاط الأنفاس والعودة للتعبير عن نفسها كجماعة بعيدة عن الثورة أو عن الجماهير.
كما أن تحدى نجاح الإسلاميين فى اقتحام العملية السياسية والتأسيس لما أطلق عليه الإسلام المشارك «وضع السلفية الجهادية فى مأزق وأصبحنا أمام مشهد عبثى يواجه فيه السلفيون الجهاديون رئيسا من التيار الإسلامى مختلف معه تيار السلفية الجهادية، هناك منطق الأولويات والمنطق السياسى غائب عند ذلك التيار.
لا يزال هناك إشكاليات فكرية تواجه السلفية الجهادية من بينها أنها لا تحظى بقبول شعبى فى ظل مواجهة التيار الإسلامى لأزمة الحكم والسلطة وعدم قدرتها على تحقيق إنجازات ملموسة فيها تجعل الناس تثق فى قدرته على ممارسة الحكم والسلطة.
إحدى إشكاليات ذلك التيار هو تكفير من يتخذ الديمقراطية وأدواتها سبيلا للتغيير، ومن هنا فإنه يحرم الطريقة التى وصل بها الإسلاميون إلى السلطة فى تونس ومصر وفلسطين، لكنه لم يطرح بديلا، وبديل استخدام العنف والقوة أثبت عدم جدواه وفعاليته.
يظل الحوار هو السبيل لتفكيك فكر التيار السلفى الجهادى الذى يذكرنى بتحدى فكر التكفير فى مطلع السبعينيات فى مصر، بيد إنه لم يصمد طويلا وكان كومضة فى سماء أبرقت ثم ما لبثت أن احترقت وانتهت واختفت، وليس هناك سبيل سوى مواجهة هذا التيار بالحوار فالأمن ليس السبيل الوحيدة لمواجهة الغلو الفكرى.
باحث متخصص فى شئون الجماعات الإسلامية