«هؤلاء أطفال موهوبون» تلخص رباب حاكم الفنانة التشكيلية خبرتها فى التعامل مع هذه الشريحة من الأطفال، مستعيرة تجربتها تحديدا فى ورشة الرسم التى نظمتها «مناديل ورق» قبل عدة أشهر، وإدارة حلقات نقاش لمساعدتهم على التعبير والتواصل. هذا النوع من المبادرات الذى يعتمد على الفن تحمل تفاصيله أسئلة كثيرة ومصاعب يواجهها العاملون به، هذا ما يوضحه المخرج جمال صدقى قائلا: «ليس لدى جميع هؤلاء الاطفال نفس الدأب والمثابرة».
يذكر المخرج هذا الرأى تحت تأثير عمله مع مجموعة من مائتى طفل على مدى عام ونصف، دربهم فيها على الوقوف فوق خشبة المسرح وممارسة فن الحكى. إلى أى مدى تنجح مثل هذه المبادرات فى الحد من ظاهرة أطفال الشوارع؟ هذا ما يشرحه الدكتور محمد نبيل عبدالحميد ــ أستاذ علم النفس بكلية الآداب جامعة المنصورة ــ قائلا: «تتشابه فكرة هذه المبادرات مع نوع من العلاج فى علم النفس يعتمد على التمثيل أو اللعب أو إقامة الحوار لتقليل عدوانية الشخص المستهدف، لكن إذا ما أردنا نتائج حقيقية فالأفضل أن تقام هذه الورش على يد متخصصين فى العلاج النفسى!».
مثل هذه المبادرات لا تغطى جميع أبناء الشوارع بأى حال من الأحوال، وتشير بعض الدراسات المعنية إلى أن أعداد أطفال الشوارع فى مصر حاليا تقدر بنحو 93 ألفا يتركز نحو 60 % منهم فى القاهرة بينما تقدرهم بعض منظمات المجتمع المدنى بنحو مليونى طفل. هذه النقطة يعيها جيدا العاملون فى هذا المجال. «هذه الأنشطة تغير حياة هؤلاء الأطفال بشكل كبير». هذا ما توضحه دينا مغربى منسقة الورش الفنية فى مؤسسة بنات الغد (بناتى) التى تهدف منذ أن بدأت فى عام 2010 إلى تقديم منظومة متكاملة لخدمة الأطفال بلا مأوى والمعرضين للخطر، وخصوصا البنات اللائى تتراوح أعمارهن بين (عام و15 سنة) وأطفالهن من الجيل الثانى من أطفال الشوارع. تعمل المؤسسة حاليا مع نحو 125 طفلة وطفل من القاهرة ومحافظات أخرى، وهو عدد محدود.. تستكمل دينا مغربى موضحة: «نطاقنا الجغرافى هو مصر، ونرعى حاليا أطفالا من بورسعيد واسكندرية وليس فقط القاهرة.. لكن بالطبع نحتاج الى مبادرات أكثر، وتقبل مجتمعى لمشاركة أطفال الشوارع فى أنشطة مفتوحة مثل ورش الرسم والحكى». تشير دينا الى أن النشاط الأبرز الذى يقوم به الأطفال الذين ترعاهم المؤسسة هو نشاط التصوير الفوتوجرافى. تكمل: «فازت إحدى بناتنا (أمل عباس) بالمركز الأول فى مسابقة تصوير نظمتها ناشيونال جيوجرافيك، وفازت 5 بنات بجوائز فى مسابقة التكعيبة للتصوير، وأجد أن أحد مكاسبنا هو أن نجد بعض البنات يردن احتراف التصوير الفوتوجرافى، حتى إن كان عددهم قليل، لذا نشجعهن على تصوير الأفراح والمؤتمرات فى نطاق الدائرة المحيطة بهن..» ورغم روح التفاؤل التى تبديها دينا إلا أن التحدى لا يزال قائما فى مدى تقبل المجتمع لحقيقة أن اطفال الشوارع أناس موهوبون ومنتجون.
يقع بعض هؤلاء الأطفال فى مرمى النيران وسط الاشتباكات المتكررة مع الأمن، وتبقى تلك الذكرى خالدة فى أذهانهم، وفى كل مرة يندرجون تحت تصنيف مثيرى الشغب، ولم يتوقف هذا المشهد حتى فى أحداث السفارة الأمريكية الأخيرة، التى تواجد فيها بعضهم ، سعد (17 سنة) أحد هؤلاء الأطفال الذين انخرطوا فى أحداث سابقة، وفى ورشة أقيمت قبل عدة أشهر لمجموعة من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و17 سنة، كان ضمنهم واستغل منسقو الورشة تلك الفكرة فى استخدام الذاكرة الثورية لهؤلاء الأطفال فى أعمال فنية، وقتها كان رسمه عن الطبيب أحمد حرارة، لكن تلك التجربة لم تتكرر بعدها، وما زال ينتظر هو غيره هذا النوع من الرعاية. توضح الناشطة الحقوقية علياء مُسلّم إحدى المشاركات فى (الحملة الشعبية لحماية الطفل: وقفة بقى) امرا آخر يحدث فى الورش التى تستقطب أطفال الشوارع، هو أن منهم من شارك من قبل فى ورش فنية متنوعة تقام عن طريق منظمات حقوق الطفل، وهو ما يعيدنا إلى الفكرة القائلة بأن عمل هذه المبادرات ينصب على مجموعات بعينها من أطفال الشوارع، ولا يصل مدى تأثيرها إلى شرائح أخرى منهم. أما ما اعتبرته أمرا جديدا فى ورشة «مناديل ورق» هو ان المبادرة اهتمت بإقامة معارض لرسومات هؤلاء الاطفال، وتطمح علياء مسلم إلى أن تتكرر التجربة قريبا من نفس المبادرة.
يعمل فى مصر نحو 32 ألف جمعية أهلية، منها 20 جمعية فقط فى مجال أطفال الشوارع، حسب هانى موريس رئيس الأمين العام للشبكة المصرية للهيئات العاملة فى مجال أطفال الشوارع، ويقول: «لا أعتقد فى صحة الإحصائيات المتداولة لأطفال الشوارع (الأطفال المعرضين للخطر)، إلا أن الواقع يقول إننا نتحدث عن مئات الآلاف بينما من نعمل معهم كجمعيات لا يتعدون العشرات أو المئات». هذا هو نفس السبب الذى دفع الدكتور محمد نبيل عبدالحميد ــ أستاذ علم النفس بكلية الآداب جامعة المنصورة ــ إلى أن يؤكد على أن هذا الجهد الطيب لن يقضى على ظاهرة أطفال الشوارع أو يحد منها ، يوضح: «هذا الأمر يحتاج إلى جهد دولة بأكملها بدءا من الإعلام، انتهاء بالاستعانة بالدراسات الأكاديمية المختصة بهذا الموضوع، ربما تكون هناك اجتهادات ومبادرات لكن هذه القضية بالذات تحتاج إلى استراتيجية متكاملة من الدولة، ومشروع قومى». هذا الرأى يدعمه تأكيد العاملين فى هذه المبادرات أن لديهم مشكلة فى تمويل مجهوداتهم، وإيجاد فنانين متفرغين لهذه القضية، ويعود هانى موريس ليؤكد على جانب آخر متمثل فى الصعوبات المجتمعية التى تواجه العمل مع أطفال الشوارع على رأسها، تلك الاتهامات التى تطول الأطفال، والجمعيات العاملة معهم حول نواياهم.. يشرح قائلا: «إذا ما قامت بهذا الدور جمعية إسلامية.. يقال: يبقى عاوزه تطلعهم ارهابيين، وإذا قامت به جمعية مسيحية، يقال: يبقى عاوزه تنصرّهم. كما أن هناك تصويرا دائم لهؤلاء الأطفال على أنهم مجرمون بينما هم ضحايا». هل يُصلح الفن ما أفسدته الأيام مع هذه الشريحة من المجتمع؟ لا يزعم القائمون على هذه المبادرات أنهم سيقضون على الظاهرة تماما، لكن تظل تلك المبادرات منبها على وجود الظاهرة، إضافة إلى ما أوجزته إحدى الناشطات فى هذا المجال بعبارة واحدة: «حتى إن تغيرت حياة فرد واحد.. فهذا مكسب لنا».