ارتباط ميدان مصطفى محمود بالمؤيدين بالرئيس السابق أوصل الأمر أحيانا ببعض مؤيدى الثورة لأن يطلقوا نكتة مثل: «إذا كان مصطفى محمود حيا لتوجه إلى ميدان التحرير»، مشيرين إلى مصطفى محمود الكاتب والمفكر المصرى المشار له باسم الميدان، ورغم قلة أعداد رواد ميدان مصطفى محمود مقارنة بالتحرير، فإن طبيعة الأحداث جعلت الأمر أشبه بالمواجهة بين الميدانين.
ثورة 25 يناير حملت معها أسماء أماكن عدة فى القاهرة ومحافظات مصر لتصنف بأنها المعبرة عن أفكار بعينها، ومنها أيضا ميدان روكسى والمنطقة المواجهة لمبنى ماسبيرو على كورنيش النيل.
يشرح خالد تليمة ــ عضو المكتب التنفيذى لائتلاف شباب الثورة ــ طبيعة محورية ميدان التحرير فى الأيام الأولى للثورة: «المسيرات بدأت من مناطق أخرى كجامعة الدول وناهيا وشبرا، ولكن كان لا بد من مكان واسع يلتقى المتظاهرون فيه، وميدان التحرير كان مناسبا لسعته ولوجود العديد من المبانى الحيوية فيه وأيضا للسوابق التاريخية لمظاهرات حدثت هناك».
ميدان التحرير يقع فى قلب القاهرة يضم منشآت مهمة ومتنوعة كالمتحف المصرى والجامعة الأمريكية ومجمع التحرير ومسجد عمر مكرم، بالإضافة إلى أنه المركز لشوارع مهمة بالقاهرة مثل شوارع طلعت حرب ومحمود بسيونى وقصر العينى وقصر النيل.
كذلك ترى د. سهير زكى حواس ــ أستاذ العمارة والتصميم العمرانى بجامعة القاهرة ــ أن: «ميدان التحرير كان يستوعب عددا كبيرا من الناس، وهو أفضل من ميادين مثل العتبة ورمسيس، لأن هذين الميدانين منقسمان عمرانيا فلا يسمحان بالتجمع فى فراغ كبير كالتحرير. هذا غير أن طبيعة ميدان التحرير احتوائية، بداية من شكل المجمع الذى يبدو وكأنه يحتضن المتظاهرين، ومبانى الميدان كانت بمثابة الحوائط أو الجدران التى أحاطت بالمتظاهرين»، وتدلل على ذلك بكون الضرب الذى واجهه المتظاهرون كان أكثره فى ميدان عبدالمنعم رياض لطابعه المفتوح وليس التحرير.
أما الثورية التى يتميز بها ميدان التحرير فهى ليست وليدة اليوم. فقد شهد الميدان مظاهرات الطلبة المطالبة بنهاية حالة اللاسلم واللاحرب عام 1972، تلك التى كتب عنها الشاعر المصرى الراحل أمل دنقل قصيدته «أغنية الكعكة الحجرية». الكعكة أو صينية ميدان التحرير أصبحت نفسها رمزا للاعتصام، والسيطرة عليها تلعب دورا محوريا فى توضيح المطالبات، الجيش والشرطة كثيرا ما حرصا على السيطرة على الصينية ومحاصرتها ومنع الاعتصام فيها.
محورية المكان الجغرافية ليست هى الكافية لاجتذاب ميدان التحرير لثورة 25 يناير، فبالنسبة للمؤرخ المصرى ــ د. خالد فهمى ــ فالبعد التاريخى لطبيعة الميدان يجب أن يوضع فى الاعتبار، فى مقاله بجريدة أخبار الأدب المعنون بـ(ميدان التحرير) يوضح أن ميدان التحرير كان مقرا لثكنات جيش سعيد باشا بالقرن التاسع عشر، هذه الثكنات تحولت لثكنات الجيش الإنجليزى بعد الاحتلال عام 1882، ليصبح المكان محل شد وجذب بين المصريين والبريطانيين، وليصبح تعبيرا عن سلطة البريطانيين ثم الضباط الأحرار بعد ثورة 1952. يستنتج خالد فهمى بالتالى أن ميدان التحرير ظل دائما مكانا للصراع بين المصريين والسلطة التى تحكمهم.
وربما برز هذا الصراع بشكل مباشر فى يوم 28 يناير، كما يقول خالد تليمة: «هذا اليوم كان مختلفا لأن المتظاهرين استطاعوا تجاوز كل الحواجز الأمنية متجهين للميدان، فكان هذا الاختراق بمثابة انتصار لهم».
ماسبيرو لجذب الإعلام
وإذا كان ميدان التحرير هو الميدان المعبر عن الثورة، حتى إن شباب الثورة غالبا ما يوصفوا بأنهم «شباب التحرير»، فإن الأماكن الأخرى قد حملت أفكارا أخرى سواء كان متوازية أو متعارضة مع أفكار الميدان، فميدان مصطفى محمود مثلا كان هو الحاضن للرافضين للثورة والمؤيدين للرئيس السابق مبارك.
كريم حسين أحد القائمين على صفحة «أنا آسف يا ريس» يوضح أن اختيار المكان الذى كان مقصدهم فى البداية هو البعد عن الاشتباكات. أما عاصم أبو الخير زميله فى إدارة الصفحة فيلقى اللوم على عدم تقبل الرأى الآخر مما يجعلهم يختارون أماكن قد تكون بعيدة عن وسط المدينة، موضحا: «نحن لا نستطيع أن نقوم بتجمع فى ميدان التحرير أو ميدان الأربعين فى السويس مثلا، فلن يتم تقبل ذلك».
ولكن كريم وعاصم استقرا الآن على أن تجمعاتهم التالية، وهم لا يفضلون كلمة مظاهرات، لن تتم فى مصطفى محمود، مشيرين إلى وجود عناصر تندس بينهم لفعل مشكلات.
يشرح كريم حسين أن اختيار المكان الذى تقام فيه تجمعاتهم يجب أن يكون معروفا وسهل الوصول بالنسبة للناس، ولكن بدائل ميدان مصطفى محمود لديهما، قد تكون أمام مبنى ماسبيرو أو عند المنصة بمدينة نصر، حيث لفت نظر الإعلام فى المكان الأول، أو احترام الدلالة العسكرية المتعلقة بتجمعهم فى الحالة الثانية.
مبنى ماسبيرو والمنطقة المواجهة له يبقيان دائما من الأماكن المستهدفة، حيث ظل ماسبيرو (مبنى التليفزيون الرسمى) طويلا هو المعبر عن سياسة إعلامية ذات اتجاه واحد. لم يجد متظاهرو الأقباط مكانا أفضل من ذلك لينفذوا فيه اعتصامهم فى شهرى مارس ومايو الماضيين. يقول رامى كامل ــ منسق اتحاد شباب ماسبيرو هذا الكيان الذى حمل اسم المكان الذى تظاهروا فيه: «اختيار ماسبيرو كان له سببان الأول هو أننا كنا نرى التليفزيون المصرى يسفه القضية القبطية بعد أحداث هدم كنيسة أطفيح وحرق كنيسة إمبابة، لذلك قررنا التظاهر أمامه، فإذا كان التليفزيون لا يستطيع الاستماع إلينا فى التحرير، فها نحن أمامه فى ماسبيرو». أما السبب الآخر فيشرحه رامى قائلا: «عدد الأقباط الذى ينزل للتظاهر قليل، فأنت بالتالى تحتاج لمكان محدود يسهل فيه الانضباط والضغط على الدولة».
ولكن محدودية المكان، كما تحدث عنها رامى كامل، لم تمنع من حدوث عنف حين عاود الأقباط التظاهر فى ماسبيرو احتجاجا على هدم كنيسة أخرى فى قرية الماريناب بمحافظة أسوان، ليُقتل أكثر من 20 قبطيا سواء بالرصاص أو عن طريق دهس المدرعات، وفى مقابل ذلك يتردد سقوط قتلى من جنود الجيش وإن لم يفصح المجلس العسكرى عن عددهم، ليصبح يوم 9 أكتوبر من أكثر الأيام دموية منذ بداية الثورة.
ميدان روكسى أيضا أصبح أحد ميادين التعبير عن الرأى، وإن كان يحرص مرتادوه على تأييد المجلس العسكرى، محمود عطية المحامى يشارك فى تلك المظاهرات بمجموعته المسماة «ائتلاف مصر فوق الجميع بروكسي»، محمود الذى لا يخجل من أن يقول إنه كان عضوا سابقا بالحزب الوطنى يرى أفضلية روكسى فى كونه «بعيدا عن زحام ودوشة التحرير، هذا غير وجود حديقة بالميدان لا نخرج منها». هو أيضا يفضل أن تكون مجموعة روكسى منفصلة عن مجموعة مصطفى محمود المتمسكين بالرئيس السابق، وإن كان يشير إلى أن بعضهم جاء إلى روكسى فعليا.
دلالات عمرانية
طبيعة المكان الذى تقام فيه المظاهرة أو الذى يتم فيه التعبير عن الرأى يتفاعل بالضرورة مع طبيعة هذا الرأى، ففى 2010 استلهم المتظاهرون طبيعة ميدان عابدين بمناسبة ذكرى وفاة أحمد عرابى، لتكرار رفض عرابى للتوريث.
يشير المؤرخ خالد فهمى فى مقاله السابق ذكره، إلى أن السلطات السياسية بعد ثورة 1952 بدأت تستخدم ميدان عابدين لتوجيه رسائلها، محيلا إلى تكرار خطابات جمال عبدالناصر من الميدان وكذلك السادات الذى خطب من هناك متوعدا معترضى زيارته إلى القدس. ولكن ميدان عابدين مع ذلك لم يكن من المقاصد الأساسية لتظاهرات ما بعد 25 يناير. وترجع د. سهير زكى حواس سبب ذلك إلى أن المكان تم تحويطه حاليا فلا يمكن الحركة فيه إلا على المحيط الخارجى للميدان.
يعطى خالد تليمة مثلا لدلالة اختيار المكان المعبر عن مضمون المظاهرة قائلا: «تشديد حالة الطوارئ الآن يتطلب أن نتظاهر لذلك فى ميدان التحرير أو أمام المجلس العسكرى، لو كان البرلمان هو الذى قرر ذلك لكان أجدى أن نتظاهر أمامه».
توضح د. سهير زكى حواس أن الميادين فى التخطيط العمرانى صنعت لتكون نقطة تجمع الناس، وهى البديل لساحة المساجد قديما، وتضيف: «عندما يكون هناك حدث فالناس تخرج من الشوارع نحو أوسع مكان وهو هنا الميدان».
اختيار المكان المناسب عمرانيا يؤثر على قوة المظاهرة، تشرح د. سهير حواس أن مظاهرات ماسبيرو الأولى لم تبد قوية لأن طبيعة المكان مفككة، حيث اضطر المتظاهرون أن يعتصموا بشكل شريطى على كورنيش النيل مما أضعف تماسكهم. أما ميدان مصطفى محمود فترى أن الناس اعتادت على التجمع أمام ساحة المسجد فى صلوات الأعياد، ولكنها مع ذلك ترى أن الميدان لم يكن يحتوى على نقطة مركزية، والنافورة التى تتوسط الميدان كانت حاجزا للتواصل بين المتظاهرين فيه. فى حين ترى أن ميدان روكسى ميدان «مكركب» عمرانيا، مما يعيق التدفق البشرى إلى هناك.
التظاهر أمام المؤسسة المنوطة بتحمل المسئولية هو أمر شائع، ولكن تصنيف أماكن بعينها بأنها تعبر عن هذه الأفكار هو الأمر المختلف الآن، وبينما يرى كريم حسين (من القائمين على صفحة أنا آسف يا ريس) أن مثل هذا التصنيف هو تصنيف مختلق ليظهر أن هناك انقساما فى البلد، إلا أن خالد تليمة يقر بواقعية هذه التصنيفات ويقول: «سيكون من الصعب أن تقام مظاهرة مضمونها المطالبة بحدين أدنى وأقصى للأجور فى ميدان مصطفى محمود».
ولكن رسوخ الدلالات التى تحملها حاليا هذه الأماكن من الممكن أن يتعرض للتبدد، كما تقول حواس: «فى الوقت الذى يتغير فيه الطابع العمرانى لميدان التحرير، علينا أن نعلم أنه بالتالى لن يحتفظ بشهادته على الثورة، المبدأ نفسه من الممكن أن ينطبق على الأماكن الأخرى، وإن كانت دلالاتها الحالية ليست بقوة ما يعبر عنه التحرير».
ميادين الاستقلال
لم تخل ثورات وانتفاضات العالم من أماكن معبرة عن طبيعة مطالب الشعوب. ميدان تيانانمن ببكين شهد العديد من الأحداث المهمة بالصين منها مظاهرات الطلبة فى 1919، احتجاجا على الرد الضعيف لحكومة الصين على تسليم الحلفاء لشبه جزيرة شاندونج الصينية لليابان على حساب الصين، ويميل البعض للقول إن هذه المظاهرات هى التى شهدت ميلاد الشيوعية فى الصين. ميدان تيانانمن أيضا شهد إعلان ماوتسى تونج لجمهورية الصين الشعبية فى الأول من أكتوبر عام 1949 ليصبح اليوم العيد القومى للصين. المحورية التاريخية للميدان جعلته هدفا للمظاهرات الصينية الغاضبة من السلطات أولا فى عام 1976 ثم فى عام 1989 حيث تجمع عشرات الآلاف من الصينيين مطالبين بالإصلاح، قبل أن يستعين رئيس الوزراء آنذاك ــ بينج لى ــ بقوات الجيش ودباباته لقمع المتظاهرين. كان عدد الضحايا ــ وإن لم يكونوا جميعا فى الميدان نفسه ــ يقدر بالمئات.
ميدان الثورة ببوخارست الذى كان يسمى ميدان القصر قبل ثورة 1989 برومانيا، شهد نقطتين زمنيتين محوريتين بالنسبة للبلد، فالميدان الذى شهد ذروة شعبية الرئيس شاوشيسكو حين أدان منه غزو حلف وارسو لتشيكوسلوفاكيا، أصبح فى عام 1989 محط شد وجذب بين شاوشيسكو والمتظاهرين. حاول شاوشيسكو ومريدوه جمع عشرات الآلاف من العمال ليخطب فيهم بالميدان وليظهر أنه لا يزال صاحب شعبية، ولكن رغم ذلك فخطبة شاوشيسكو لم ترض عددا من العمال، بل أطلقوا الاستهجانات والصفارات ضده، عدم قدرة شاوشيسكو على السيطرة على الميدان بخطبته كانت تعنى نهاية اللعبة بالنسبة له. وربما إحدى التجارب التى تقاربها تجربة ميدان التحرير هى الثورة البرتقالية فى أوكرانيا، التى تركزت فيها الأنظار على ميدان الاستقلال بالعاصمة كييف، حيث تجمع المتظاهرون واعتصموا لأسابيع احتجاجا على الانتخابات الرئاسية فى 2004 والتى قيل إنها قد شابها الفساد لصالح فيكتور يانوكوفيتش، الرئيس الحالى لأوكرانيا. الاعتصام نجح وأعيدت الانتخابات وفاز بها فيكتور يوشينكو الذى تضامنت معه المظاهرات. ميدان الاستقلال من ساعتها أصبح محط الاهتمام السياسى من قبل المتظاهرين الأوكرانيين من حيث كونه المعبر الرئيسى عن أفكارهم.
الثوار الليبيون سارعوا بعد السيطرة على طرابلس على تغيير اسم الساحة الخضراء التى كان القذافى يلقى منها خطبة إلى ميدان الشهداء. يكرر الليبيون احتفالهم بسقوط القذافى من هذا المكان الذى يرمز تخليصه من اسمه فى عهد القذافى إلى التخلص من رأس النظام نفسه.
دول عربية أخرى تحمل ميادين تجذب المتظاهرين السياسيين إليها، فكان ميدان اللؤلؤة بالبحرين، وميدان الأول من مايو بالجزائر.
بعيدا عن اجتذاب الميادين للمتظاهرين تبقى حديقة مثل حديقة هايد بارك بإنجلترا ذات تاريخ طويل مع التظاهر واجتذاب الراغبين فى التعبير عن رأيهم، ففى العام 1855 احتج المتظاهرون على وثيقة تمنع البيع والشراء يوم الأحد، بالإضافة إلى العديد من الحركات العمالية الإنجليزية التى أقامت مظاهراتها فى المكان نفسه، وتظل الهايد بارك حتى الآن مقصدا للمتظاهرين.