الهجرة نوعان: هجرة خارجية من دولة إلى دولة أخرى، وهجرة داخلية من منطقة إلى منطقة أخرى داخل نفس الدولة، وتكون العاصمة أكثر جذبا للمهاجرين هجرة داخلية بسبب توافر الخدمات وتواجد إدارات الحكومة المختلفة بها.
والهجرة قد تكون دائمة بهدف الاستقرار، وقد تكون مؤقتة للعمل أو الدراسة. كما أنها قد تكون هجرة جماعية كهجرة أسرة بأكملها، أو هجرة فردية. وإذا كان بعض المهاجرين يتحلون بقيم جديدة، فإن بعضهم يرحل للمدينة ومعه أخلاق القرية وطباعها، وبعضهم الثالث يجمع فى داخله بين طباع المدينة وأخلاق القرية.
وكثيرا ما عبر المهاجرون عن مشاعرهم فى الغربة، وكتبوا خواطرهم، وبعضهم عبر عن خواطره فى صورة أدبية روائية أو فى مقالات صحفية؛ ومن ذلك مثلا أن جريدة (الإنذار)، وكانت صحيفة سياسية أسبوعية تصدر بالمنيا لصاحبها ومحررها المسئول صادق سلامة، نشرت فى عددها الصادر بتاريخ 21 يونيو 1953م، مقالا عنوانه «خواطر قروى فى القاهرة» كتبه محمد على غريب، وكان من إحدى قرى مديرية قنا، رحل إلى القاهرة وعاش فيها نحو ثلاثين عاما. وهو فى مقاله كتب عن بعض ذكرياته بين القرية والمدينة، وقدم رؤية لإصلاح حال القرى.
قال فى مقاله:
«يوم وفدت على القاهرة أبتغى طلب العلم فى الأزهر، لم يكن خيالى يرتقى إلى تمثل ما وصلت إليه مدنيتها وحضارتها. وكنت ــ وأنا فى القرية الصغيرة النائية فى الصعيد ــ أرسم القاهرة فى ذهنى على نحو يزيد قليلا على ما فى فرشوط ونجع حمادى من مظاهر التقدم. لكنى حين بلغتها فى المساء ورحت أسبح فى أضوائها وأخوض فى غمار ضجيجها أيقنت أن فرشوط ونجع حمادى لا تزالان قريتين مقفرتين!
وجعلت أتطلع إلى كل ما يقع عليه بصرى فى اهتمام ودهشة، وكان الذى يحيرنى ألا أجد أحدا من المارة فى اهتمامى ودهشتى مما يراه. وذلك لأن ساكنى القاهرة قد تعودوا مشاهدها وفتنوا بها مرة ومرات. ثم لم يعودوا يُفاجئون بجديد منها، كما يعشق الرجل فتاة حلوة سكرة. فإذا أمضيا زوجين عشرين عاما أصبحت فى عينه وكأنها قطعة من الأثاث!
وعشت نحوا من ثلاثين عاما فى القاهرة. ومرت بى أحداث وأهوال، وذقت مرارة الحياة، وإذا كان الأمر أمر التاريخ ووجوب قول الصدق أمانة فإنه ليمكن أن أقول إننى ذقت حلوها مرة ومرتين، ومع ذلك لهذه المدينة الصاخبة المكتظة بالملايين من سائر الأجناس لم تستطع أن تخرجنى عن القرية التى نشأت فيها.
لم أفقد شيئا من خصائص القرية سوى اللهجة، ولكننى وأنا أقيم فى القاهرة وبينى وبين قرية العسيرات فى نجع حمادى مئات من الكيلو مترات، ما أزال أجوس خلال هذه القرية وأفتش فى أكواخها وفى منازلها عن الأهل والأحباب.
ما أزال قرويا حقيقيا فى كل شىء، وما أزال كما رُبيت، شديد الخجل شديد الحياء، حتى أننى حين أقدم على جلوس وإن كانوا من الزملاء أو الأصدقاء أتردد فى أن ألقى بالتحية. وقد يعتبر الكثيرون منهم ذلك السلوك تكبرا ولكنه خجل وحياء.
أنا غريب حقا فى القاهرة فأنا قروى وإن ارتديت الكسوة الأفرنجية. وأنا قروى وإن عدنى الناس واحدا من ناس هذه المدينة الكبرى. وفى كل ما أكتب فى النقد فإننى أكون متأثرا بالقرية التى وُلدت فيها.
إننى لأذكر أضأل التفاصيل عن حياتى فى القرية.. مثلا أذكر يوما مطيرا وكنا نحن أطفال القرية نلعب فى الحقل، فجمعنا كومة من (قش) القصب، حاولنا أن نشعل فيها النار لنستدفئ، ولكن المطر أطفأ النار فرحت أنفخ فيها وإذا بسحابة من الدخان يقذف بها الهواء فى عينى فلا أعود أنظر شيئا.
وأذهب إلى المنزل وأنا أعمى. ويذهبون بى إلى الطبيب فيصف دواء ولكنه لا يشفينى، وعندئذ تهمس قروية فى أذن جدتى بأن تذهب بى إلى مقبرة قريبة وتجعلنى أطل على الموتى من فجوة واسعة. وإذا بى أعود القرية مبصرا.
لم أنس شيئا من حياة القرية، ولكننى نسيت الكثير من حياتى فى القاهرة ولست بآسف على ما نسيته فى حياة هذه المدينة الواسعة، فإن الكثير منه لا يسر، وحسبى أن تبقى لى ذكرياتى الحبيبة عن القرية، عن هذا الموطن الخشن الجاف.
الذى يدهشنى أن أجد جميع أهل القاهرة يسخرون من القرويين ويتنادرون بطباعهم ويتهكمون على لهجاتهم. وأفهم أن يقترف هذه الخطيئة رجل من عنصر تركى، فإنه ينظر إلينا نحن القرويين لما كان ينظر أجداده لأجدادنا.. نظرة السيد للعبد، ولكننى لا أفهم أن قرويا جاء إلى القاهرة سابحا فى النيل على ظهر (بلاص) ما أن يمضى عامين فيها حتى يكشف عن موهبة السخرية والاستهزاء بالقرويين!
وهناك حقيقة لا ريب فيها. وهى أن القرية كلها بر وخير ومعروف للمدينة. ولكنها لا تلقى من المدينة سوى العقوق والجحود، فلولا هذه القطعة الحديدية الصغيرة المسماة بالفأس ولولا ضرباتها الموجهة فى الأرض لما وُجدت حديقة الأزبكية ولا عمارة الإيموبليا ولا أى مظهر من مظاهر التقدم الإنسانى فى أية مدينة من المدن.
فأنظر إلى ما تجازى به القرية من المدينة.. إن إصلاح حال القرية يجىء عادة على ألسنة الخطباء وفى عناوين المقالات، وإذا تألفت لجنة لإصلاح حال القرية جاء أعضاؤها إليها فى سياراتهم الفاخرة. واحتوتهم حجرة قد يكون مستمتعا بما يُسمى تكييف الهواء. ثم يجلس هؤلاء السادة المترفون فى مقاعدهم الوثيرة ليتحدثوا بعد ذلك عن إصلاح حال الفلاح!
إن إصلاح حال الفلاح لا يكون إلا فى القرية التى يعيش فيها الفلاح ولابد لمن يريد الإصلاح حقيقة أن يحيا فى القرية ويأكل من طعام الفلاح ويرى كيف ينام هذا الفلاح!
وأنظر إلى ما تكافئ به الدولة أهل القرى؟ إنها لا تنقل الكثيرين من موظفيها إليهم إلا إذا كانوا من المغضوب عليهم أو كانوا ممن عجزوا عن الوصول إلى وساطة قوية.
وبذلك يعيش كثير من الموظفين فى الأقاليم وعقولهم وقلوبهم تركض وراء الشفاعات والوساطات فى القاهرة للوصول إلى قرار نقلهم من هذه البقاع.
وتسألنى بعد ذلك: هل أنت سعيد فى القاهرة؟ لا والله.. فكم تمنيت أن أرزق قطعة من الأرض فيها منزل وفى المنزل مكان لطائفة من الكتب. أقرأ ثم أقرأ ثم أقرأ.. ولن أعود إلى القاهرة حينذاك ولو عرضوا على منصب محافظ القاهرة!».