عادت الحياة إلى طبيعتها فى محافظة قنا القابعة فى جنوب الصعيد، بعد أيام من الرعب عاشها السكان على خلفية مشادة بين الشباب من قبيلتى الحميدات والاشراف، مما أدى إلى تحول المشاجرة فى الطريق العام إلى مواجهة مسلحة بين القبيلتين، أسفرت عن حرق عدة محال.
المحال التجارية استأنفت نشاطها وفتحت أبوابها من جديد، بعد فترة «إغلاق جبرى».. تمركزت فيها المدرعات التابعة لقوات الشرطة فى عدة مناطق، لمنع تجدد الاشتباكات، فيما ينتظر أصحاب المحال التى احترقت أثناء الأحداث، تقرير لجنة تقصى الحقائق التى شكلها المحافظ.
ينقسم سكان قنا إلى ثلاث قبائل رئيسية هى الهوارة، الأشراف، العرب، وهى قبائل جاءت إلى مصر من شبه الجزيرة العربية قبل قرون طويلة واستقرت على ضفتى النيل، ورغم مرور مئات السنين، لم تتلاش روح القبيلة أو تختفى نعراتها.
ما يرويه الآباء للأبناء هو أن خلافا تاريخيا حدث بين القبيلتين فى بداية القرن العشرين واستمر حتى 1954، سادت فيه حوادث الثأر ، قبل أن يتوقف شلال الدم، مع الوصول إلى صيغة صلح أرضت الطرفين.. لكن الروايات عن الخلاف ظلت متوارثة، ليصبح لدى كل شاب رواية مختلفة عن الماضى.
على مدار أكثر من نصف قرن لم تشهد العلاقة ــ بحسب كبار العائلتين ــ أى أحداث عنف، باستثناء مشاجرات بسيطة سرعان ما احتواها الكبار، لكن خلال المواجهة الأخيرة، ساهمت حالات الاحتقان التى اعقبت انتخابات مجلس الشعب فى تصاعد وتيرة الغضب، علاوة عن انتشار السلاح بين يدى الشباب بصورة ملحوظة.
تشكل قبيلة الاشراف النسبة الأكبر من عدد السكان فى المحافظة، حيث يتراوح عدد سكانها فى مدينة قنا ومحيطها ما بين 50 و60 ألف نسمة، يملكون أكثر من 30 الف صوت انتخابى، بينما يتراوح سكان قبيلة الحميدات بين 40 و43 ألف نسمة، يملكون أكثر من 21 الف صوت انتخابى، وهو ما يجعل كرسى البرلمان دائما من نصيب الأشراف.
ورغم مظاهر التحضر البادية على المحافظة، إلا أن التقسيم القبلى لايزال سائدا، سواء فى أماكن السكن التى تحدد مكان كل قبيلة وأراضيها الزراعية، أو فى الأسواق.. فسوق الصهريج خاص بقبيلة الاشراف، والسوق الفوقنى خاص بقبيلة الحميدات، إلا أن استثناءات فقط تضع محال بعض أفراد العائلتين جنبا إلى جنب، بالاضافة إلى العمل بالمؤسسات الحكومية.
«ربما لو كانت هناك صلة نسب بين القبيلتين لهدأ الامر كثيرا»، هكذا بدأ الدكتور حماد على، أحد كبار قبيلة الحميدات حديثه لـ«الشروق» مؤكدا أن «هناك مصالح مشتركة كثيرة بين القبيلتين، وهناك علاقات صداقة تجمع بينهما، لكن صلة النسب ليست موجودة، نظرا لأن الأشراف يرفضون أن تتزوج بناتهم من خارج قبيلتهم، ومن ثم يكون موقف الحميدات مماثلا».
يرجع حماد تفاقم الصراع بين القبيلتين إلى «حالة التراخى الأمنى التى شهدتها المحافظة، نظرا لأن القبضة الأمنية كانت تسيطر على الامور فى بدايتها، لكن استغلال الشباب المتسرع لحالة الانفلات الأمنى، هو السبب فى تفاقم الاوضاع بصورة كبيرة، ما يكشف عنه لجوء القبيلتين لشراء كميات كبيرة من الاسلحة لشعور كل منهما بخطورة الموقف».
مضيفا: «السلاح انتشر بصورة كبيرة واصبح فى يد الجميع.. لكنه لم يكن يظهر على الاطلاق فى الشارع، ويظل محفوظا فى المنزل.. كبار القبيلتين لا يرغبون فى أن تعود الداخلية إلى ممارسة دورها».
سعد إبراهيم، أحد كبار عائلة الحميدات، قال إن تجار السلاح «كانت لهم مصلحة فى عدم انتهاء الصراع واستمراره، من أجل زيادة مبيعاتهم، لاسيما مع تفاقم الاحداث، وانتشار الشائعات قبل دقائق من إتمام الصلح كان يؤدى إلى إفساده، دون أن نعرف مصدر هذه الشائعات».
يؤكد إبراهيم «احترام الحميدات لسيادة القانون، وتسليم المطلوبين أمنيا للشرطة من أجل اتخاذ الإجراءات القانونية.. فعدد كبير ممن وردت أسماؤهم فى كشوف المتهمين التى اصدرتها مصلحة الامن العام، تم تسليمهم بالفعل، ونطالب الشرطة بإلقاء القبض على أى شخص يحاول اشعال الفتنة مجددا».
أحد شباب قبيلة الحميدات ــ فضل عدم ذكر اسمه ــ أشار إلى وجود ضغينة لدى الشباب بسبب التمييز ضد شباب الحميدات، ومنعهم من الالتحاق بالكليات العسكرية والسلك القضائى على خلفية انضمام عدد منهم إلى الجماعات الإسلامية عام 1992»، لافتا إلى أنه «منذ ذلك التاريخ لم يلتحق سوى شاب واحد فقط بالكلية الجوية العام الماضى».
وأوضح أن غالبية شباب الحميدات «يعرفون جيدا أنهم محرمون من الالتحاق بهذه الاماكن، ورغم ذلك يتقدمون لها أملا فى تغير الاوضاع، وهو ما لم يحدث حتى الآن»، مطالبا بإنهاء التمييز تجاههم، «خاصة وأن قبيلة الأشراف يلتحق من أبنائها عدد كبير بهذه الكليات».
التساؤل يرد عليه محمد حسن العجل، رئيس مجلس المدينة الاسبق واحد كبار عائلة الاشراف، مبررا التحاق أبناء قبيلته بالكليات العسكرية «بطبيعة النظام السابق الذى كان لا يسمح للالتحاق بهذه الكليات سوى لمن لديه علاقات داخل البرلمان، ونظرا لكون المقعد البرلمانى لدائرة قنا من نصيب الاشراف، فإن نواب مجلس الشعب كانوا يتوسطون للشباب من أجل الحاقهم بهذه الكليات».
يؤكد العجل أن «الصراع على المقعد البرلمانى فى كل دورة انتخابية، يكون سببا فى توتر العلاقة بين القبيلتين، لكن الأمر ينتهى سريعا مع انتهاء الانتخابات وحسم المقعد للأشراف، لكونهم الأكثر عددا»، موضحا أن «ممثل قبيلة الحميدات لم يدخل جولة الاعادة فى الانتخابات سوى فى الانتخابات الماضية وقبل الماضية، لوجود أكثر من مرشح من الاشراف، وهو ما أدى إلى تفتت الأصوات فى الجولة الاولى، خاصة وان الحميدات لا تدفع سوى بمرشح واحد فحسب».
وقال المهندس محمد الغزالى «الشاب يحرص على شراء السلاح، لأنه يعتقد أنه يجعل له قيمة وسط أقرانه، أما الكبار الذين جمعوا الأموال من أجل شراء الأسلحة، كان هدفهم أن يظهروا فى الصورة وأن يكون لهم مكانة مميزة».
وأكد أن جمع السلاح من القبيلتين «لا يمكن أن يتم بشكل ودى على الاطلاق، ولكن لابد من حملات مداهمة امنية تطول الجميع، وعلى كبار العائلات ألا يتدخلوا فى ذلك، مثلما حدث فى العمليات التى تم تنفيذها على مدار الايام الماضية، ولم تشهد سوى حادثة تعرض واحدة وتم القاء القبض على الشخص الذى حاول التصدى لقوات الأمن».