يوم 25 يناير 2011 كنت فى المنتدى الاقتصادى العالمى فى دافوس بسويسرا. لكننى كنت على وعى تام بأن الحكم فى مصر وصل إلى أزمة، وأن هناك ثورة فى النفوس على الأقل، وأنها سوف تترجم فى أى لحظة إلى ثورة فى الشارع. وأدلل على هذا الكلام وأوثقه بالكلمة التى ألقيتها من موقعى «الأمين العام للجامعة العربية» أمام القمة العربية الاقتصادية الثانية التى استضافتها شرم الشيخ فى 19 يناير 2011. كان يجلس بجوارى الرئيس الأسبق حسنى مبارك باعتباره رئيس هذه القمة، عندما قلت «إن ثورة تونس ليست بعيدة عن هنا؛ عن هذه القاعة».
كنت فى هذه الأثناء مستفزا من تلك التصريحات التى رددها مسئولون مصريون إثر قيام الثورة فى تونس، كذلك الذى قال إن «مصر ليست تونس»، أو كالذى قال «مصر هى مصر»، ولست أدرى ما معنى هذه الكلمة حتى اليوم! أغضبت كلمتى أمام المؤتمر عددا من رموز النظام المصرى، الذين همسوا بذلك فى أذنى بعد انتهاء الجلسة، فقلت لهم «أنتم بعيدون عن الإحساس بالواقع المصرى وشعور الناس تجاهكم».
أعود إلى ما جرى يوم 25 يناير، فبمجرد أن تواترت الأنباء عن قيام المظاهرات ووجود تجمعات شبابية فى ميدان التحرير وأنا فى دافوس جاءنى على الفور كوفى عنان السكرتير العام للأمم المتحدة ليستوضح الأمر. قلت له «هذه ثورة احتجاجية على فشل الحكم، وانا كنت متوقعا قيامها»، وقد عدت إلى مصر مباشرة. فلم يكن هناك معنى لأى حديث أجريه فى دافوس ومصر فى مرحلة مخاض لحقبة مقبلة فى تاريخها.
بمجرد وصولى القاهرة توجهت فى اليوم التالى مباشرة (27 يناير) إلى مقر الجامعة العربية فى ميدان التحرير. كانت الأجواء كلها توحى بأن الثورة المصرية ستمضى فى طريقها. وفى اليوم التالى، وكان يوم جمعة الغضب تحدث إلى الدكتور نبيل العربى من جريدة «الشروق». قال: لقد شكلنا لجنة تبحث الخروج بالبلاد من الأزمة السياسية التى تعيشها، وأن هذه اللجنة تضم عددا من الشخصيات العامة والمثقفين، وندعوك للانضمام إليها. قلت له: اعتبرونى معكم.
توجهت فى اليوم التالى إلى مقر «الشروق»، فوجدت الدكتور كمال أبوالمجد، إبراهيم المعلم، ونبيل العربى، وعددا آخر من الشخصيات، يكتبون بيانا فتدخلت معهم فى صياغته. وقيل لى: هل ستشارك وانت تتبوأ منصبا رسميا فى العالم العربى، قلت لن أجدد فى أمانة الجامعة العربية، وعزمى أكيد على أن أكون جزءا من الحركة السياسية المصرية.
بعض بيانات لجنة الحكماء لا تحمل توقيعى لكننى أؤكد أننى كنت أبلغ بمحتواها تليفونيا وأوافق عليها. رغم الظروف العصيبة إلا أن النقاش داخل هذه اللجنة كان رائعا. كان هدف المجتمعين محاولة انقاذ البلد وإنتشاله من شبح فوضى يراه أعضاء اللجنة يخيم على الوطن.
أؤكد هنا على حقيقة راسخة وهى أنه لم يكن فى ذلك الوقت أى تأثير أو ثقل إلا لميدان التحرير بزخمه وعنفوانه، لكن ما يجب الإشارة إليه أيضا أن لجنة الحكماء كانت تفكر فيما هو أبعد من تنحى رئيس الجمهورية، وهو الوضع الدستورى للبلاد. فالثوار لا هدف أمامهم إلا إسقاط النظام ومع سقوط النظام سيسقط الدستور.. لكن كيف ستدار البلد فى اليوم التالى لإسقاط النظام وإسقاط الدستور؟ لم يكن أحد لديه فكرة عن هذا الوضع الخطير الذى سيواجه الوطن. كان هذا هو الشغل الشاغل لـ«لجنة الحكماء»، وهو دور كان فى غاية الأهمية، بغض النظر عن قدرة هذه اللجنة على تنفيذ ما توصلت إليه من أفكار وأطروحات لمستقبل البلد.
تقريبا كانت هذه اللجنة خلال الـ18 يوما التى سبقت تنحى مبارك أشبه بمعمل لإنتاج أفكار مرتبطة بكيفية إدارة البلاد فى هذا الوضع المتأزم، والذى ليس له سابقة فى التاريخ المصرى الحديث، وكان هذا شيئا إيجابيا ومحترما، وهذا هو دور المفكرين والمثقفين والسياسيين والشخصيات العامة فى مثل هذه الظروف. ولذلك أدعو الجميع عند الحكم على دور هذه اللجنة خلال الثورة للنظر إليها على اعتبار أنها «إسهام لمثقفين، وليست إسهاما لثائرين». ومن هذا المنطلق كانت مطالبها أقل سقفا من مطالب الميدان، فشتان بين ما يقرره الثائر فى الميدان وبينما يراه المفكر الذى ينظر للأمر بشكل ربما أكثر واقعية، وأنا هنا لا أصدر أحكاما بشأن من فيهم على صواب.
فى أحد اجتماعات اللجنة يوم 4 فبراير قررنا الذهاب إلى ميدان التحرير، تحركنا من مقر «الشروق» إلى الميدان برفقة كمال أبوالمجد ويحيى الجمل ونبيل العربى ونبيل فهمى وإبراهيم المعلم وعمار الشريعى، وعدد آخر. أثناء دخولنا الميدان أوقف المتظاهرون سيارتى على كوبرى قصر النيل. كانوا مجموعة من الشباب ومن الفلاحين القادمين من مناطق مختلفة فى مصر. كادوا يخرجونى من السيارة. ثم هتفوا باسمى. كنت وقتها على وعى بأن الهتاف باسمى سيحدث بعض التجاذب داخل اللجنة، خصوصا أننى لاحظت فى أحاديثها وما حولها سؤال عن صاحب القدرة على التأثير الأكبر، وادعاء أكثر من طرف بأنه صاحب هذا التأثير.
تجددت الهتافات عندما بدأنا ندخل الميدان. تقدم الدكتور أبوالمجد وخلفه الدكتور يحيى الجمل إلى نقاط بعيدة فى الميدان. وانا خلفهم. فى اتجاه ثان. بمجرد انخراطى فى صفوف المتظاهرين هتفوفوا «يحيا عمرو موسى.. عاش عمرو موسى»، قلت لهم: «الهتاف يجب أن يكون لمصر، وهتفت بأعلى صوتى: «تحيا مصر»، ورددت الجماهير خلفى هذا الهتاف. وكان هذا أول ظهور لهذا الهتاف فى مصر بعد الثورة. حاول يحيى الجمل أن يخطب وابوالمجد، لكن الاستجابة لم تكن كبيرة معهما، حيث كان ميدان التحرير قد بدأ يخضع لقوى كانت تستعد للانقضاض على الثورة وجنى ما يمكن أن تحققه من مكاسب، وأعنى هنا الإخوان المسلمين.
حدث بعد ذلك نقاش داخل اللجنة بشأن «مبادئ تعلو عن الدستور». كنت أحد المعارضين الرئيسيين لها، ولم أوقع عليها، لأنه مادام هناك ما يعلو على الدستور فأنت تصغر من قيمة الدستور وتصبح المطالبة بدستور عصرى لا قيمة لها. قالوا سنضع مجموعة مبادئ عامة. قلت: يمكن تفسيرها من ذات اليمين وذات اليسار. كان رأيى دائما أن الدستور يعلو على كل الأمور الأخرى وينص على هذه المبادى ويضعها بداخله فى مواضعها الصحيحة. كان التيار الذى يقف خلف هذه المبادئ التيار الذى كان يمثله محمد البرادعى.
بعد التنحى تراجع دور لجنة الحكماء؛ لأن من كان له التأثير الأكبر فى المشهد: المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالدرجة الأولى، ثم الإخوان، والثوار والتيارات المدنية التى تؤثر فيهم.
أستطيع أن أقول إن دور اللجنة بعد التنحى اقتصر على دعوة بعض أعضائها لمشاورات ع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، كما حدث معى شخصيا، فأول جلسة لهذه المشاورات التى أجراها المشير حسين طنطاوى كانت تضم: البرادعى ومحمد مرسى ونجيب ساويرس وأنا، ورئيس محكمة النقض سرى صيام ورئيس المحكمة الدستورية العليا فؤاد سلطان.