متى تثور حاجة أطراف متخاصمة إلى طرف ثالث؟ وما هى احتمالات نجاح هذا الطرف الثالث فى تجسير الفجوة بين هذه الأطراف؟ الإجابة على هذين السؤالين تكشف عن الأسباب التى دعت إلى تشكيل ماسمى بجماعة «الحكماء» أثناء أحداث ثورة الشعب المصرى المجيدة فى يناير وفبراير2011، ولماذا تجددت لقاءات أعضائها فى مناسبات لاحقة.
الإجابة على السؤال الأول أن الحاجة إلى الطرف الثالث تظهر عندما يبدو أن المواقف متباعدة بين أطراف خصومة أو صراع سياسى، وأن كلا منها لا يقبل حتى مجرد الحديث مع الطرف الآخر، ولكن إمكانية نجاح الطرف الثالث تتوقف على إدراك الأطراف المتخاصمة أنه ليس بوسع أى منها بمفرده أن يحسم الموقف الخلافى لصالحه تماما، وأنه لا يملك وسائل حسم هذا الموقف، أو يدرك فداحة الثمن الذى عليه أن يتقبله حنى يصل إلى هذا الحسم.
هذا هو الموقف الذى ساد فى مصر، فى ميدان التحرير وحوله ولدى قيادات المجلس الأعلى للقوات المسلحة أثتاء الثورة.
لقد تصاعدت مطالب ثوار التحرير بعد انهيار قوات الأمن فى 28 يناير وانسحابها بعد عجزها عن إجلائهم بالقوة من الميدان، وصار مطلبهم الأساسى هو سقوط نظام مبارك. ولكن كيف يتم إسقاط هذا النظام وهو مازال فى رأيهم محميا بالقوات المسلحة، التى وإن كانوا قد استراحوا أن دباباتها حول ميدان التحرير لم تكن تعترض الدخول والخروج إليه، ولكن كان سؤالهم هو ماذا ستفعل هذه القوات عندما تتحرك الجموع الهادرة فى الميدان وحوله نحو قصر الإتحادية؛ لإجبار مبارك وعائلته على التخلى نهائيا عن السلطة؟.
ومن ناحية أخرى، لم يكن واضحا أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد حسم أمره بالوقوف إلى جانب الثورة، بل بدا أنه كان يلتزم بحياد سلبى تجاه الثوار، فدباباته لم تحرك ساكنا عندما كان ثوار التحرير يتعرضون لهجمة غاشمة من جانب أنصار الحزب الوطنى وبلطجيته الذين سعوا لاكتساح ميدان التحرير فيما عرف بموقعة الجمل، والتى كانت صراعا حقيقيا للسيطرة على الميدان ووضع نهاية للثورة، وهى الأحداث التى شهدت بداياتها فى الميدان، وتايعتها على شاشة التليفزيون خلال ليلة الثانى من فبراير وحتى فجر الثالث من فيراير2011.
ولذلك ظهرت هذه المبادرة والتى استهدفت ليس اتخاذ موقف وسط بين مطالب الثوار وما كان يريده المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فلم يكن هناك أدنى شك لدى أعضاء هذه الجماعة فى تأييدهم الكامل لأهداف الثورة، وكان الكثيرون منهم متواجدون فى الميدان ومشاركين فى المسيرات التى قادت قطاعات من المواطنين إليه، ومنها بالنسبة لكاتب هذه السطور مظاهرة أساتذة الجامعات المصرية التى انطلقت من أمام النصب التذكارى المواجه لجامعة القاهرة صوب الميدان، ولكن كان الهدف هو تسهيل الحوار بين الطرفين.
وكان الطرفان يقبلان الدخول فى هذا الحوار، فقد شهدت أعدادا من شباب الثوار يحضر للحوار مع بعض أعضاء هذه الجماعة فى «دار الشروق»، وأتصور أن خلاصة هذا الحوار كانت تصل إلى بعض أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
وقد عبر أعضاء هذه الجماعة عن مساندتهم الكاملة للثورة بتوجههم فى مسيرة إلى ميدان التحرير، وكان من أبرز لحظاتها لقاؤهم بالسيد عمرو موسى فى جامعة الدول العربية قبل دخولهم الميدان. وقد قدرت شجاعة عمرو موسى الذى كان بحكم منصبه الرسمى أمينا عاما للجامعة العربية يخاطر بلقاء أعضاء الجماعة على حين كانت بعض أقوى الدول داخل الجامعة تتخذ موقفا معاديا للثورة ومناصرا حتى اللحظة الأخيرة لنظام مبارك.
الأسباب التى دعت إلى ظهور جماعة الحكماء فى يناير وفبراير 2011 لم تتكرر فى لحظات أزمات حادة مرة بمصر بعدها. لم يشعر الإخوان المسلمون ولا أطراف جبهة الإنقاذ بالحاجة إلى طرف ثالث عندما احتدمت الأزمة بينهما فى أعقاب الإعلان الدستورى للرئيس الأسبق محمد مرسى فى 22 نوفمير 2012. تصور كل طرف أن بوسعه توجيه ضربة قاضية لخصمه. الإخوان المسلمون بيقينهم بتأييد جماهيرى كاسح لهم، وجبهة الإنقاذ بتعويلها على تدخل القوات المسلحة ضد الإخوان المسلمين. وإذا كانت الحكمة تقتضى فى الوقت الحاضر من الإخوان المسلمين والجماعات المسلحة التى تشن حربا بلا هوادة على مؤسسات الدولة المصرية قبول طرف ثالث، وقد قبل الإخوان بالفعل وساطة أوروبية بعد عزل محمد مرسى، ألا أن شروطهم لحل وسط الآن هى اختفاء خصمهم من الحياة السياسية. وخصمهم، الرئيس السيسى، بدوره لا يجد مستقبلا لهم على أرض مصر، بل ولا يجد الرئيس السيسى مكانا لأى جماعات تعارض نظامه، لأن البلاد، فى رأيه، بحاجة إلى اصطفاف وطنى لا يسمح بالاختلاف. كما أن فجوة الثقة بين حكم الرئيس السيسى وجماعات الشباب ومنظمات كثيرة فى المجتمع المدنى لا تجعل أيا من هذه الأطراف يرى أى جدوى فى الحوار أو فى وجود طرف ثالث يسهل هذا الحوار.