يعتبر أن المثقف ليس ضمير الأمة ولكن الأحزاب السياسية المسؤولة عن ذلك.. يعتبر أن ولادة المثقف الحديث جاءت في منتصف القرن الـ19 عبر تجربتين بلبنان ومصر.. يؤمن بأن المثقف التنويري انتهى والوطن العربي في حاجة إلى المثقف النقدي المحلل للظواهر الاجتماعية والسياسية.. ببساطة هو الدكتور خالد زيادة سفير لبنان بالقاهرة.
هذه المرة، يأخذ الحوار مع السفير المثقف شكلا مختلفًا، وتحديدًا بالتركيز على الجانب المبدع للدكتور زيادة الذي يعرفه الناس أكثر من كونه سفيرًا للبنان بالقاهرة، فلبنان تعرف كيف تختار سفراءها.
هذه المرة كنت مشغولا بمسألة المثقف والسلطة، خاصة بعدما أصدر كتابه عن الدار المصرية اللبنانية «الكاتب والسلطان»، الذي يطرح فيه تلك المسألة الجدلية التي توضح مقدار ووزن الدول. في حواري حاول زيادة مناقشتي في تصورات خاطئة عن المثقف.
كثيرون يؤمنون بأن المثقف ضمير الأمة.. ما تعليقك؟
المثقف ليس ضمير الأمة، هذا دور نلقيه على عاتقه، وهو إلقاء خاطئ، فهذا دور الأحزاب السياسية فقط، لكن لأنها ضعيفة يبحث الناس عن منقذ يقف في وجه السلطان، ولا يجدون سوى المثقف. وهو فخ ووهم.
«في العادة هناك سوء فهم لدور المثقفين؛ لأننا نريد لهم أن يكونوا التعبير عن ضمير الأمة، وأن يكونوا صوت الناس ولهذا السبب نسمع الكثير من الانتقادات لمثقفينا حين يتخلون عن الاستجابة لما يطلب منهم من الرأي العام، أي الدفاع عن القيم الأساسية خصوصًا الحرية".
حدثنا عن كتابك «الكاتب والسلطان.. من الفقيه إلى المثقف»
موضوع الكتاب هو المؤسسات العاملة في فترة سابقة للحداثة، وكان الهدف من كتابتي له البحث عن جذور المثقف الحديث، الذي دفعني إلى ذلك نضوب المكتبة العربية من الأبحاث التي ترصد الظاهرة بشكل تاريخي، خصوصًا أن الكلام عن المثقف كان يحيلنا دائمًا إلى المثقف الأوروبي، وهناك العديد من الدراسات التي أرادت أن ترجع إلى نموذج المثقف الفرنسي الذي أصبح نموذجًا بارزًا في العالم.
وعن الاختلاف فيما يقدمه د. زيادة تابع: «أردت أن أبتعد عن تلك التفسيرات؛ لأبني محاولة جديدة تقوم على العودة إلى فترة سابقة للحداثة لمعرفة كيفية اشتغال المؤسسات التي تمسك بالعلم والكتابة.
ولهذا السبب تناولت مُؤسسات العلماء وكُتاب الدولة ووجدت في نهاية الأمر أن مؤسسة العلماء في مواجهتها للحداثة قد خسرت الكثير من المواقع، في وقت كانت فيه مؤسسة كُتّاب الدواوين، التي تخدم الدولة قد أسهمت في التحديث. لكن هذا التحديث في نهاية المطاف أطاح بمؤسسة الكتّاب في الوقت الذي شهدنا فيه ولادة نموذج جديد هو المثقف التنويري.
ويمكننا أن نأخذ مثالا من مصر التي نجد فيها تجربة مختلفة عن تجربة إسطنبول، ففي مصر وقف كتّاب الدواوين وهم المحاسبون والذين يتعاطون في إدارة الدولة المالية موقفًا حذرًا من التحديث؛ لأن محمد علي باشا قد اعتمد على أفراد من خارج هذه المؤسسة وخصوصًا طلاب البعثات، وألغى كل أسلوب عمل كتّاب الديوان المحاسبين الذي كانوا في غالبيتهم من الأقباط.
شهدنا بعد ذلك في مصر ولادة مدرسة الألسن التي ترجمت أعمالا من لغات أوروبية، وفي عهد إسماعيل شهدنا ولادة صحف ومدارس تعمل في إدارة الدولة ولكن بناء على أسس معرفية جديدة».
إذا هل تعتبر المثقف مستقل؟
«الغالب في التفكير أن المثقف ينبغي أن يكون مستقلا ومعارضًا وهذه تجربة فرنسية من إيميل زولا الذي يعتبر مقاله «إني أتهم» ولادة المثقف في فرنسا إلى جان بول سارتر ولكن النموذج الفرنسي ليس مطابقًا لتجارب المثقفين في ألمانيا وإنجلترا، ففي ألمانيا نعرف جيدًا أن المثقف الذي كان يتمثل في الأستاذ الجامعي هو الذي أسهم في بناء الدولة والقومية الألمانية. أما إذا انتقلنا إلى العالم الأنجلوسكسوني والأمريكي فإن الفلسفة التجريبية الإنجليزية في الأساس تمهد السبيل إلى فكرة التعامل والخوض في الواقع".
وإذا ذهبنا أبعد من ذلك نجد أن الإنجليز حينما ذهبوا إلى الهند ومصر لم يغيروا نظام الحكم بل تعاملوا مع الوقائع القائمة، بينما الفرنسيون حينما ذهبوا إلى البلدان التي استعمروها أرادوا فرض النظام الجمهوري وهذا يدلنا على فارق بين ثقافتين وتراثين فكريين مختلفين.
وما رأيك في القول بأن هناك مثقفا معارضا؟
المثقف العربي والمصري خصوصًا، لعب دورًا أساسيًّا في بناء الدولة المصرية الحديثة بعد ثورة ١٩ وكان لرجال الحكم وأساتذة الجامعة دور في صياغة دستور ٢٣ وبناء حياة سياسية تدور حول الأحزاب وحول الحياة البرلمانية.
وفي تلك الفترة كان دور المثقفين من حقوقيين وأدباء حاسمًا في تشكيل الوعي الوطني المصري، في تلك الفترة السابقة لثورة يوليو لم يكن هناك تساؤل حول المثقف المعارض. والمعارضون إذا جاز التعبير كانوا ضمن العملية السياسية، وأضف إلى ذلك مثقفي اليسار الذين يدور تفكيرهم أيضًا حول الدولة.
علينا أن نصيغ مفهومًا للمثقف أكثر رحابة من مجرد المعارضة فضلا عن التجارب التاريخية التي تلعب دورًا في صياغة هذا المثقف، ففي العالم العربي وكما ذكرنا فإن المثقفين في بداية القرن العشرين كانوا يحملون همّ بناء دولة حديثة وأسهموا في بنائها وتبعًا لتقاليد بعض البلدان وخصوصًا مصر فإن المثقف ولد في كنف الدولة وأسهم في بنائها وعمل في مؤسساتها ولكن هذا لا يلغي وجهًا آخر للمثقف المصري كان متمثلا في شخصية عبدال له النديم الثوري وعباس العقاد الذي كان مستقلا وخارج المؤسسة.
ما الفرق بين ولادة المثقف التنويري في مصر ولبنان؟
ولادة المثقف الحديث جاءت في منتصف القرن التاسع عشر عبر تجربتين في لبنان ومصر، والفارق بين هاتين التجربتين أن المثقف التنويري في لبنان ولد خارج مؤسسات الدولة وكان متأثرًا بـ«الإرساليات» والأفكار الحديثة، أما في مصر فكانت ولادته في كنف الدولة ولهذا السبب شهدنا توافد اللبنانيين إلى مصر في نهاية القرن التاسع عشر وكان لهم تأثير بسبب المبادرات التي اتخذوها في تأسيس صحافة ودور نشر خاصة، لا تمول من العاهل أو الحاكم.
وماذا عن التجربة العربية.. أليست مستقلة عن بقية التجارب؟
«إذا عدنا إلى التجربة العربية فنجد أن المثقف كان مهمومًا في القرن التاسع عشر بهموم مزدوجة، فمن ناحية كان يدافع عن مبدأ الحرية والمساواة وحرية المرأة عند الطهطاوي، ومن ناحية أخرى كان مهتمًا بمبدأ الدستورية ونظام الحكم والشورى والتمثيل".
وإذا أخذنا محطة من محطات هذا التاريخ نعود إلى ١٨٧٦ حين أعلن الدستور في إسطنبول الذي عاد وألغاه السلطان عبد الحميد في أقل من سنة، فإننا نجد أن شرائح واسعة من المتعلمين والمتنورين قد تأسس وعيها في تلك اللحظة حول المسألة الدستورية التي تعني نظام الحكم من تكوين وعي ونجد أن انبثاق الحياة السياسية قد تم على أثر ذلك. وهذا يعني أن بناء الدولة ونظام الحكم هو جزء أساسي للمثقفين في تلك الفترة.
لم نعد في عصر التنوير، نحن الآن إلى حد بعيد في عصر إعادة النظر بمنجزات عصر التنوير العربي، وعلى سبيل المثال: لقد أعددنا دساتير في مراحل سابقة، والمطروح اليوم إعادة النظر في هذه الدساتير، وإذا كانت السلطات تجري انتخابات وفقًا لمبدأ الديمقراطية القائم على المساواة بين المواطنين إلا أن الانتخابات كعملية ديمقراطية لا تلبي الغرض منها، ولم يعد كافيًا أن يكون المثقف داعية لأفكار التنوير كما كان عليه الأمر في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
نحن في زمن أصبحت فيه الظواهر شديدة التعقيد، وتحتاج لفهمها مناهج معرفية ونقدية. لهذا أقول: إن المثقف التنويري قد انتهى، ونحن بحاجة إلى المثقف النقدي الذي يحلل الظواهر الاجتماعية والسياسية وينقدها.
أصدرت كتابًا لافتًا للنظر بعنوان «لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب» لماذا قررت ذلك؟
ينبغي أن نعترف أن كل التيارات الثقافية الحديثة في العالم العربي كانت ذات مصدر أوروبي وحتى الإصلاح الإسلامي نشأ كرد فعل على أفكار أوروبا وبتأثير أفكار التقدم وحرية الرأي والتجديد. والذي أردت قوله: إن علاقتنا بأوروبا هي علاقة فريدة من نوعها في التاريخ الإنساني. هناك جوار صعب إذ نتقاسم بحرًا صغيرًا شهدته العلاقات الإسلامية الأوروبية لم تشهده شعوب مثل الصين والهند.
ولهذا السبب فإن تأثير أوروبا يمتزج مع ذاكرة كثيفة من الصراعات والتبادلات، ولكن شيئًا من كل هذا أصبح ملكًا للتاريخ وحتى في الأجزاء الأكثر قربًا فقد انتهى منذ وقت قريب تأثير أوروبا الفكري والثقافي.
صحيح أن أوروبا ما تزال متقدمة فكريًّا وعلميًّا وثقافيًّا ولكنها لم تعد مصدر الأفكار الكبرى، فإن زمن الأفكار الكبرى قد ولى، والزمن الذي كانت تلعب فيه أوروبا دورًا تنويريًّا قد انتهى بدوره وأوروبا مصدر الأيديولوجيات قد زال بدوره أيضًا ولكن هذا لا يعني أن الأفكار التنويرية قد ماتت؛ لأن فكرة الحرية والمساواة والأخوة الإنسانية التي بثتها الثورة الفرنسية أصبحت ملكًا للإنسانية وتراثًا مشتركًا.
ما خلصت إليه في كتابي هو أننا مدعوون إلى إنشاء أفكارنا بالاستناد إلى أفكار النهضة والإصلاح التي عرفناها في منتصف القرن التاسع عشر، ومنتصف القرن العشرين.
وإزاء ما نشهده اليوم من توسع لظواهر التطرف الديني فإن المؤسسة الدينية مدعوة للعب دور في نشر أفكار الإصلاح التي عرفناها من أمثال الإمام محمد عبده الذي دعا إلى تجديد التفكير الديني وكانت له آراء واضحة في رفض السلطة الدينية. وهذا الأمر ليس مقتصرًا على الفقهاء بل هو مسؤولية المثقفين بشكل عام والذين يرون ضرورة تقديم صورة لإسلام معتدل ومتسامح.