مصـر تتضخم ولا تتقدم
معتز بالله عبد الفتاح
آخر تحديث:
السبت 1 يناير 2011 - 9:45 ص
بتوقيت القاهرة
رغمًا عن أننى من أشد الناقدين (ولا أقول بالضرورة المعارضين) للحزب الوطنى، لكن هناك بعض القضايا التى أتفق مع القائمين عليه فى طرحها على أجندة المجتمع والحكومة كى تكون ذات أولوية قصوى. وواحدة من هذه القضايا الملحة هى القضية السكانية. وهذا مجال إخفاق حقيقى للحكومات المتعاقبة. ومحاولات السادة المسئولين تصوير الأمر على أن عدد التكييفات أو الموبايلات أو السيارات التى اشتراها المصريون هو مؤشر نهضة مصر، هى محاولة غير سليمة منهاجيا. ولو أردنا الدقة هى مؤشرات أننا أصبحنا كيانات استهلاكية، لا سيما مع ارتفاع معدل الدين العام والخارجى.
إذن نحن نستهلك أكثر لأننا مدينون أكثر. وكان الأجدى بقيادات الحزب أن تعطينا مؤشرات عن عدد براءات الاختراع منسوبة لعدد المصريين، وكم قسما فى جامعة حقق إنجازا علميا عالميا، وكم عدد التكييفات أو الموبايلات أو السيارات أو الكمبيوترات التى أنتجتها مصر (أو على الأقل نسب ما تنتجه من مكوناتها).
والخشية كل الخشية أن تأتى نخبة إصلاحية لحكم مصر، ونكتشف جميعا آنذاك أن «الوقت قد تأخر جدا»، ولو حكم مصر الطيب أردوغان، ومهاتير محمد، ولولا دى سيلفا مجتمعين، فستكون المشاكل أعظم وأعمق وأوسع من قدرتهم وقدرتنا معهم على حلها. قال لى أحد الباحثين الأمريكيين الذين تلقوا جانبا من تعليمهم فى مصر فى مطلع الثمانينيات بعد أن عاد من زيارة إلى مصر الشهر قبل الماضى: «مستحيل ألا تكونوا كمصريين غير واعيين بحجم المشكلة السكانية وتأثيرها.. كل شىء فى مصر كما هو لكنك تحتاج فترة زمنية أطول كى تصل إليه.. هذا إهدار لطاقات المجتمع الكلية».
وفى واحد من تقارير الأمم المتحدة لعام 2007 عن أحوال الزيادة السكانية فى مصر فإن هناك العديد من الظواهر التى لا يمكن أن تفهم بمعزل عن وضع الزيادة السكانية فى الاعتبار. إنها مشكلة وطن ترتفع فيه نسبة الإعالة والفقر والجريمة والبطالة وزنى المحارم والتشرد وتفكك الأسرة بسبب وجود أب وأم غير قادرين على تربية سبعة أطفال فى المتوسط فى العشوائيات وريف مصر. وقد قال خبير إسرائيلى ذات مرة إن إسرائيل محظوظة بأعدائها واستخدم الزيادة السكانية المصرية كمثال على غفلة المصريين عن دورهم فى إضعاف مصر بكثرة الإنجاب. ولم يكن الدكتور جمال حمدان بعيدا عن هذا المعنى حين أشار فى كتابه شخصية مصر لأن مصر شهدت واحدة من أكبر ثورات الزيادة السكانية فى التاريخ، ولكن حدث تدهور شديد فى خصائص السكان وبالتالى أصبح سكاننا عبئا على مواردنا مهما نجحنا فى استغلالها.
وللموضوع عدة أوجه، فمن وجهة نظر دينية، فإن الاحتجاج بأن هناك حديثا يدعونا للتناكح والتكاثر لأن الرسول (ص) سيباهى بنا الأمم يوم القيامة لا يفهم إلا فى إطار حديث آخر يقول: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول.» وكذلك حديث «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» وبالتالى علينا أن ننجب من الأطفال بقدر ما نحسن التربية.
وقد أعجبنى قول البابا شنودة بأن الله لن يسأل أحدنا كم أنجبت من الأطفال ولكنه سيسألنا عن حسن تربيتنا لأولادنا.
ومن وجهة نظر اجتماعية، فالمكون الأساسى لهذه المشكلة ليس فى الزيادة فى ذاتها وإنما فى أن هذه الزيادة تأتى من أقل الناس قدرة على تربية وتعليم أطفالهم. ولنأخذ مثلا الوجه القبلى الذى يمثل حوالى 18 مليون نسمة بنسبة 25 فى المائة من سكان مصر. ويبلغ عدد مواليد الوجه القبلى حوالى 41 بالمائة من إجمالى مواليد الوطن (2 حوالى مليون). وأتذكر جيدا أننى كنت أسكن فى عمارة 12 دورا، كل عدد أبناء السكان تحت سن 10 سنوات أربعة أطفال والبواب الذى يعيش فى حجرتين فوق السطوح عنده 8 أولاد وبنات، اثنان منهما كانا بالفعل تخطيا سن التعليم وبالتالى لا مجال لعودتهما إليه.
ومن وجهة نظر اقتصادية، فإن كل 1 جنيه ينفق على تنظيم الأسرة يؤدى إلى توفير فى المصروفات العامة (مباشرة وغير مباشرة) فى حدود 134 جنيها، وتوفير فى إنفاق مباشر 44 جنيها مع العلم أن نصيب كل مولود جديد من الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية فى الموازنة العامة للدولة يبلغ 4500 جنيه تقريبا.
إذن مصر فى خطر «سكانى» لا يقل عن الأخطار التى تحيط بها وتنفجر من داخلها. لقد بلغ تعداد سكان مصر عام 1980 حوالى 40 مليون نسمة، والآن (أى بعد 30 عاما) أصبح عدد السكان 80 مليون نسمة وإذا استمرت الزيادة السكانية على نفس المعدل الحالى فإنه من المتوقع أن يصل عدد السكان بعد 30 عاما أخرى إلى ما يقارب 160 مليون نسمة.
يعنى بعد 30 سنة سنكون بحاجة لنفس العدد من المدارس والمستشفيات والطرق والجامعات الموجودة حاليا، ليس بغرض أن نتقدم، ولكن حتى لا نتخلف أكثر. ولا بد من توضيح أن مصر ليست غنية بمواردها الطبيعية مثلما هو الحال فى الصين أو الهند.
وما يزيد الأمر سوءا هو جانبه السياسى، فالنخبتان الحاكمة والمعارضة منشغلتان بقضايا «التزويث» عن هذه المعضلة السرطانية. فمن وجهة نظر سياسية، يبدو أن الدولة ليست مستعدة للاستفادة من تجارب دول أخرى سبقتنا فى هذا المضمار وحققت قطعا نتائج أفضل منا.
فهناك حوافر إيجابية يمكن أن تعطى للمواطنين الذين ينجبون بقدر ما يستطيعون إحسان التربية والتعليم. ومن هذه الحوافز الإيجابية، تخفيض الضرائب التى يقوم رب الأسرة بسدادها طبقا لعدد أطفاله (مثلما يحدث فى تونس وبنجلاديش وإندونيسيا وفيتنام)، فضلا عن منح التقاعد التى تعطى لموظفى الحكومة الذين لديهم عدد محدد من الأطفال طبقا لعدد الأطفال، وتنعدم هذه المنح بعد الوصول إلى عدد معين من الأطفال ثم تتحل إلى عقوبات مع زيادة الإنجاب، وهناك تسهيلات فى الحصول على المنح والقروض وفى سدادها بقدر انضباط الأسرة عدديا (مثلما يحدث فى بنجلاديش وإندونيسيا)، والمساعدة على توفير مساكن للأسر صغيرة الحجم.
فضلا عن حوافز مالية لمن يلتزمون بالسن القانونية لزواج الفتيات (الهند مثلا). وفى الهند كذلك يمكن منح حوافز مجتمعية فى منطقة بأكملها نظرا لالتزامها بمبدأ تنظيم الأسرة وانخفاض معدل وفيات الرضع والمواليد بجانب انتشار المعرفة بالقراءة والكتابة وتحقيق التعليم الأساسى لجميع سكان المنطقة.
وهناك كذلك حوافز سلبية (أى عقوبات) تفرض على من يبالغ فى الإنجاب، لأنها ليست حرية شخصية، وإنما هى مسئولية من الشخص تجاه مجتمعه أن ينجب فى حدود حسن التربية والتعليم. حيث يتم فرض عقوبات على ولى الأمر الذى يمتنع عن إلحاق أطفاله بمؤسسات التعليم الأساسى أو يتسبب فى ترك أبنائه للتعليم قبل بلوغ سن 16عاما طالما كان الطفل قادرا على مواصلة التعليم. وذلك على اعتبار أن التعليم هو أحد أهم عوامل الارتقاء بالخصائص السكانية كأحد الأبعاد الأساسية للمشكلة السكانية (تونس وتايلاند)، وتطبيق عقوبات مالية وإدارية على المخالفين مثل تخفيض الحوافز المادية.
إلى أهل مصر المحروسة، القضية السكانية معضلة فوق حزبية لأن القضية فى مرحلة قادمة لن تكون من الذى يحكم مصر، وإنما أن عدد المصريين وصل إلى مستوى لا يمكن معها حل مشاكلهم بغض النظر عن اسم من يحكمهم.