حديث الشعوب من باريس إلى عطبرة
طارق عبد العال
آخر تحديث:
الثلاثاء 1 يناير 2019 - 10:55 م
بتوقيت القاهرة
يقول «هانك جونستون» فى كتابه المعنون «الدول والحركات الاجتماعية» الصادرة ترجمته عن المركز القومى للترجمة فى القاهرة (2017)، إن الناس يلجئون إلى الاحتجاجات والتظاهرات وحملات جمع التوقيعات، والمسيرات والتنظيمات التى تعبّر عن مطالبهم فى التغيّر الاجتماعى، وتعد كل تلك الأساليب مهمة لتأكيد المصالح والدفاع عنها فى السياسة المعاصرة، وذلك هو الموضوع الأساسى الذى يطرحه الكتاب، بمعنى أن الحركات الاجتماعية هى سياسة يقوم بها الناس وليست سياسة النخب فقط.
ويأتى دور الحركات الاجتماعية وعلاقتها بالدولة حيث أصبح للحركات الاجتماعية دور بارز فى السياسة فى جميع أنحاء العالم، على الرغم من أنها قد تكون لها فرص أفضل للنجاح فى ظل الديمقراطية. ففى ظل نظام العولمة توفرت الفرص للمجموعات التى تعيش فى ظل الديكتاتوريات للضغط على حكومتهم، فدمقرطة الاتصالات ووسائل الإعلام على حد سواء قد سهلت للأفراد سبل التلاقى والعمل المشترك لتحقيق مصالحهم المتماثلة، فضلًا عن إعطائهم مزيدا من الحرية فى تحركاتهم لنشر رسالتهم وتوليد الضغط للعمل. فالإنترنت، على وجه الخصوص، أصبح أداة تعبئة قوية مستخدمة.
ومن هنا يأتى الحديث عن ظاهرة أصحاب السترات الصفراء فى فرنسا، والتى تضم مجموعات غير متجانسة من المتظاهرين، حيث تضم شبابا عاطلين عن العمل ومتقاعدين من ذوى المعاشات المنخفضة وأشخاصا يحصلون على الحد الأدنى للأجور فقط، وهناك أيضا نشطاء ينتمون إلى اليمين المتطرف واليسار المتطرف انضموا إلى الحركة الاحتجاجية، أولئك الذين استفزتهم القرارات الأخيرة للحكومة الفرنسية بزيادة أسعار المحروقات، وما أعقبها من التنازلات التى قدمتها الحكومة الفرنسية، والتى جاءت لتلبية المطالب التى أعلنها المتظاهرون مع انطلاقة الحراك قبل عدة أيام، وعلى رأسها التراجع عن الزيادة التى كانت مقررة فى أسعار الوقود. حيث أعلن الرئيس الفرنسى ماكرون عن إلغاء الزيادة فى الضريبة على الوقود، ووعد برفع الحد الأدنى للأجور بواقع مائة يورو شهريا اعتبارا من العام الجديد فضلا عن تخفيضات ضريبية للمتقاعدين.
***
ثم يأتى بعدها الحركة الثورية التى تجرى منذ أسبوعين فى السودان، ويمثل تدهور الأوضاع المعيشية، السبب الرئيسى لاندلاع هذه الاحتجاجات فى السودان، إذ أقدمت الحكومة مؤخرا على زيادة أسعار الخبز، ليصل سعر الرغيف من جنيه واحد، إلى ثلاثة جنيهات هذا بجانب معاناة يشكو منها السودانيون منذ وقت طويل، من عدم توفر الوقود ودقيق الخبز، وكذلك عدم توفر السيولة النقدية، إذ تمتنع المصارف فى السودان عن تمكين الناس من الحصول على «الكاش»، متعللة بأنها تعجز عن توفير السيولة النقدية، بسبب سحب المواطنين لمدخراتهم وتحويلها إلى دولار، وبحيث لم تعد هناك سوى عدة ماكينات آلية لصرف النقود، تعمل بصورة متقطعة فى العاصمة، فى حين لا تسمح المصارف للمواطنين بسحب أكثر من عشرة دولارات يوميا.
وكما يقول الأكاديمى السودانى الدكتور عبدالوهاب الأفندى فى حديثه لموقع وإذاعة البى بى سى بتاريخ 23 ديسمبر، فإن «ثورة السودان الحالية تختلف عن سابقاتها، بدءا من انطلاقها من الأقاليم، بدل العاصمة الخرطوم» ويضيف الأفندى «بهذا الانتقال من الهامش إلى المركز، والسرعة الخاطفة من الانتشار، تكون هذه الثورة نقلة نوعية مقارنة بسابقاتها، فقد استغرق إسقاط نظام الفريق إبراهيم عبود أسبوعا فى عام 1964، بينما صمد نظام جعفر النميرى 12 يوما».
***
وهنا لن يكون تركيزى على كيفية مسارات الثورة السودانية، بقدر ما يكون حول أسباب تأجج الحراك المجتمعى، وتحوله بين الحين والآخر ومن مكان لآخر إلى حركات ثورية، متخطيا حدود المطالبات المجتمعية، إذ إن المشاهد لأحداث السودان التى لم تكن حاضرة بشكل كاف على محطات البث الإعلامى العربى، فإن السبب الأول أو المحرك الرئيسى هو تدهور الأحوال الاقتصادية أو ربما يصدق وصف الأحوال المعيشية على أوضاع السودان بشكل كبير، وذلك لازدياد معدلات الفقر والبطالة، وغياب الخدمات المجتمعية الأساسية بشكل كبير، إلى أن وصل الأمر إلى حالة من التنافر بين الحكومة والشعب السودانى، أو كما قال الخال ــ عبدالرحمن الأبنودى ــ «بين المنابر والمصليين فيه اتصال مفصول أو انفصال موصول وفيه مسافة بين صفوف الخلق والإمام».
***
ولو عدنا إلى كتاب «الدول والحركات الاجتماعية» والذى بدأنا به الحديث، يرى المؤلف، وذلك وفق ما نشره موقع الميادين تعليقا على هذا الكتاب بتاريخ 18 / 5 / 2018، حيث يرى الكاتب أن الحركات الاجتماعية والاحتجاجات تظهر داخل أنساق الدولة، وهى تستهدف فى الغالب سلطات الدولة التى تعمل على إحداث التغيّرات والإصلاحات التى تجيب على مطالب المحتجين، فبإمكان المحتجين أحيانًا أن يتحدوا المؤسسات التى لا تنتمى إلى الدولة، مثل إدارات الجامعات أو المنظمات الدينية. ولكن الغالبية العظمى من الاحتجاجات الاجتماعية والحركات الاجتماعية فى القرن الحادى والعشرين، جعلت من الدولة هدفًا، ومن هذا المنطلق يأتى التبرير الأساسى لنشر هذا الكتاب. فالحركات الاجتماعية لا تشكل كيانات مستقلة تناوئ الدولة من الخارج، لكنها جزء من عملية سياسة تفاعلية بين الدولة والمجتمع. وتتحدد هذه العملية، وتتغير مضامينها، وفقًا لما تتمتع به الدولة من قدرة على إنفاذ مبادئ العدالة والمساواة والمواطنة والحماية والاستجابة لمطالب وحاجات المواطنين.
وهو الأمر الذى نرى انعكاسه الأول فى الاستجابة السريعة لمطالب الثوار الفرنسيين، والرجوع عن قرارات زيادة أسعار المحروقات، وربما كان لهذه الحركة الفرنسية أثر فى إشعال فتيل الثورة السودانية، والتى لم تظهر لها نتائج أو مؤشرات أولية تبشر بنهاية هذا الحراك المجتمعى بطريقة ترضى الشعب السودانى أو ترفع عن كاهله بعض الأعباء التى يعانى منها منذ وقت طويل، وهو الأمر الذى أثر بشكل مباشر، ومبالغ فيه أيضا من تردى الأحوال المعيشية فى معظم المناطق، وزيادة معدلات الفقر عن النسبة التى من الممكن أن تتحملها الشعوب.
وهذا ما يؤكد على أهمية الحراك المجتمعى، ومدى قدرته على تحديد مسارات السلطة واتجاهاتها، وخصوصا فى أحوال الانحراف عن المسارات الطبيعية، أو البعد عن مشكلات المجتمع وعدم الاكتراث بها، والسعى نحو حلها، والعمل على زيادة نماء الشعوب وتحقيق الرخاء الاقتصادى، أو على الأقل الكفاية الأولية من الاحتياجات بشكل أساسى، ثم السعى نحو تحقيق رفاهية الشعب، وإزالة أية أسباب لصعوبة الحياة، ومن ثم لن تكون هناك حاجة للاحتجاج الشعبى، أو لتصعيد الأوضاع، وهو الأمر الذى يمثل الدور الرئيس للحكومات فى كل بلدان العالم والذى يخلص فى كيفية تحقيق مطالب الشعوب، وتحقيق تنمية اقتصادية إلى أن تصل إلى حد الرفاهية كلما أمكن ذلك.