العام الجديد ومستقبل الحضارة الغربية
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الأحد 1 يناير 2023 - 7:45 م
بتوقيت القاهرة
يقول أحد الفلاسفة إن الإنسانية لا تطرح سؤالا إلا إذا كان لديها عليه إجابة، ولو أتيح لهذا الفيلسوف أن يتابع المشهد الثقافى فى مصر لوصل إلى الاستنتاج بأن مناقشات المثقفين العرب عموما والمصريين على نحو خاص تشكل بكل تأكيد استثناء من هذه القاعدة، فقد طرحوا على أنفسهم وعلى أمتهم، التى هى بكل تأكيد إحدى عائلات هذه الإنسانية، سؤالا أخفقت كل إجاباتهم فى الخروج بأمتهم من المأزق الذى وجدت نفسها فيه منذ صدمة هزيمتها أمام الغرب. السؤال الذى أعنيه، والذى لا نجد له إجابة بالمعنى التاريخى، أى إجابة تنقلنا من الوضع الذى جعلهم يطرحون هذا السؤال، وهو لماذا تقدم الغرب، وتقهقر العرب؟
ولكن بعض المثقفين العرب وجدوا طريقة للتغطية على فشلهم، فراحوا يطلقون الدعاوى بأن الحضارة الغربية ذاتها فى طريقها إلى الانهيار، وأنها ستعجز عن مواجهة التحديات التى أصبحت تهددها فى العقود الأخيرة، من خارجها أولا فى صعود قوى غير غربية وخصوصا الصين على الصعيد العالمى، وإيران على الصعيد الإقليمى، ومن داخلها بانتشار الحركات الشعبوية التى ترفض بعض قيم هذه الحضارة مثل المساواة بين البشر على اختلاف ألوانهم وأعراقهم ولغاتهم ومعتقداتهم، بل وبين الرجال والإناث، ومثل حرية التعبير، ولا شك أن هؤلاء المثقفين يشعرون بنوع من الرضاء عن الذات، فها هى الحضارة التى تغلغلت فى مجتمعاتهم هى بدورها آيلة للسقوط، ومن ثم فإن السؤال الذى كان يحيرهم لم تعد له قيمة، وطبعا بعضهم يخلص من هذه التأملات إلى الاستنتاج أنه ليس أمامنا سبيل للنهضة إلا أن نعود إلى التراث. ولا يشغل هؤلاء المثقفين الذين يدعون إلى هذا المخرج أن كل التجارب المعاصرة فى العودة إلى التراث قد فشلت فشلا محققا، وانتهت بدورها إلى توليد أزمات وجودية كما هو الحال فى إيران فى ظل الجمهورية الإسلامية أو تركيا تحت حكم حزب العدالة والتنمية، ولا داعى هنا للإشارة إلى حكم الطالبان فى أفغانستان، والذى أستبعد كثيرا أن يشير إليه أحدهم بأنه وفّر الإجابة الصحيحة على هذا السؤال.
أطمئن قرائى الأعزاء بأنى لا أزعم ولا يدور بخلدى أن أقدم إجابة جديدة على هذا السؤال الذى أعيا أجيالا عديدة من مثقفى دول الجنوب عموما، فى الصين والهند بل وفى اليابان التى انضمت إلى دول الشمال، ولكنى أنبههم إلى أن الوقت ما زال مبكرا للحكم بسقوط الحضارة الغربية، لأنهم اختزلوا الحضارة الغربية فى احتلال دول غربية لقمة توزيع القوة فى النظام العالمى، أو فى النظام السياسى الديمقراطى، ولذلك قفزوا إلى الاستنتاج بأن هذه الحضارة مآلها السقوط لأن دولا غير غربية فى مقدمتها الصين تقترب من قمة هذا النظام، أو لأن النظام الديمقراطى فى معاقله المعاصرة الرئيسية يواجه أزمة نتيجة صعود التيارات الشعبوية التى ترفض بعض قيم هذا النظام، وفاتهم أن مفهوم الحضارة كثقافة وكممارسات مادية فى كافة مجالات الحياة هو أوسع بكثير من توزيع القوة على النظام العالمى أو الارتباط بنظام سياسى معين.
جوهر الحضارة الغربية الذى اكتسب الهيمنة
الأسس الرئيسية للحضارة الغربية المعاصرة، والتى تكاد تكون موضع إجماع، هى أولا الثقافة العلمانية التى تجد مصدر المعرفة فى عقل الإنسان، وهى ثانيا النظام الرأسمالى الذى يقوم على الملكية الخاصة، وهى ثالثا الدولة القومية التى تخضع من يعيشون داخل حدودها لسلطة مركز واحد لا يقبل أن تكون له منافسة من جانب أى فئة أو جماعة أو طبقة فى مجتمعها. هذه الأسس هى التى نهضت عليها دول الغرب وفرضت نفوذها فى جميع أنحاء العالم، كانت فى مقدمة هذه القوى هولندا فى القرن السابع عشر وبريطانيا فى القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين والولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين. الدول الصاعدة فى النظام الدولى مثل الصين أو الهند تلتزم بهذه الأسس حتى وإن ادعى الحزب الشيوعى الصينى أن نموذجه فى تنظيم الاقتصاد هو نموذج اشتراكى وهو ما ينكره الواقع، وحتى إن تلاعب حزب جاناتا الحاكم فى الهند بمشاعر الهندوس ليكسب أصواتا فى الانتخابات. والدول التى تعثرت مسيرتها على طريق التقدم هى الدول التى ترددت نخبها فى التسليم بسلطان العقل البشرى، أو أدارت نظامها الاقتصادى لصالح قطاع فى النخبة الحاكمة أو التى عجزت عن فرض سيطرة المركز على كافة أنحاء الوطن. أزمة إيران على سبيل المثال هى الارتكان لغير عقل الإنسان كمرجع للنظام السياسى، وأزمة روسيا هى كبح التطور الرأسمالى فيها لصالح النخبة الحاكمة.
الحضارة الغربية لم ترتبط بالديمقراطية الليبرالية إلا تدريجيا ومنذ منتصف أواخر القرن التاسع عشر. الغالبية الساحقة من المواطنين البريطانيين لم يكن لهم حق التصويت حتى ستينيات القرن التاسع عشر، والنظم الفاشية الحديثة هى اختراع غربى صميم كما يشهد على ذلك تاريخ كل من إيطاليا وألمانيا فى النصف الأول من القرن العشرين، وأبرز نماذج الحزب الواحد هى ما عرفه هذان البلدان مع الاتحاد السوفيتى، والذى استمر فيه هذا الحزب الواحد حتى بداية تسعينيات القرن الماضى. لا ينكر أحد دور كل من إيطاليا وألمانيا فى الحضارة الغربية المعاصرة والتى شهدت المدن الإيطالية بداياتها، كما أن مساهمة ألمانيا فى هذه الحضارة فى علمها وفلسفتها وموسيقاها وأدبها هو مصدر فخر لهذه الحضارة، وعلى الرغم من امتداد روسيا إلى مساحات واسعة من آسيا إلا أن مثقفيها وفنانيها تفاعلوا مع ما وصل إليهم من غرب القارة ووسطها وأضافوا إليها إبداعات قيمة فى روايات تولستوى وديستويفسكى وموسيقى تشايكوفسكى ورخمانينوف وسترافنسكى. كما أن لهذه الحضارة تجليات فى غير هذه المجالات تمتد من الفنون والآداب إلى أنماط العمارة وتخطيط المدن وأنواع وأساليب الطعام وإلى أماكن اللهو. الرواية والفيلم والمسرح هى من إبداع هذه الحضارة، والأبراج العالية والطرق السريعة هى من سمات الطبعة الأمريكية لهذه الحضارة بالإضافة بطبيعة الحال لمطاعم الوجبات السريعة التى انتشرت بفروعها الأمريكية فى كافة أرجاء المعمورة. والذى يذهب إلى بكين العاصمة الصينية سوف يندهش عندما يرى هذه الطرق الواسعة والعمارات العالية خارج المدينة التاريخية حول الميدان الأحمر، كما أن شنجهاى عاصمة الصين الاقتصادية تكاد تتنافس مع المدن الأمريكية فى ارتفاع أبراجها.
أزمة الحضارة الغربية
كاتب هذه السطور يدرك تماما أن الحضارة الغربية تواجه أزمة، وهو أمر موضع نقاش واسع بين الفلاسفة الذين ينتمون إلى هذه الحضارة، وهم ينتقدون الأسس الثلاث التى تقوم عليها. ولكن وربما يسبب ذلك جزعا لدى مثقفينا الذين روجوا لمقولة سقوط هذه الحضارة، لم يخرج أى منهم ببديل له مصداقية. أدرك هؤلاء الفلاسفة أن هناك حدودا لما يمكن أن يصل إليه عقل الإنسان، وأن المعرفة العلمية هى معرفة ظرفية مرتبطة بما يتوافر لدينا من أدوات البحث، بل وشكك كثيرون منهم فى أن تكون هناك معرفة موضوعية أصلا، وأفاضوا فى مخاطر نتاج العقل من تكنولوجيات وصناعات قد يؤدى بعضها مثل القنابل النووية إلى فناء البشرية، وبعضها الآخر ينتج تغيرا فى المناخ وارتفاعا فى درجة حرارة الأرض وذوبان الجليد فى القطبين الشمالى والجنوبى وما يترتب على ذلك من آثار على البيئة. وانتقد آخرون نموذج الدولة القومية وما يؤدى إليه من تهميش للأقليات، ولكنهم اكتشفوا أن الثورة على الدولة القومية تنتج دولا لا تقل فى قمعها للمواطنين عن الدولة القومية ولكن تمارس هذا القمع باسم قومية صغرى كما هو الحال فى صربيا فى تعاملها مع سكان كوسوفو بعد تفكك يوغوسلافيا، أو الشيشان فى روسيا. فضلا عن أن الديمقراطية الليبرالية هى فى واقع الأمر حكم أقليات متنافسة برزت منها فى الوقت الحاضر أقسام الطبقة البورجوازية الكبيرة التى تجمع بين الثروة والقدرة على صياغة عقول المواطنين من خلال السيطرة على أدوات الإعلام. وأخيرا فإن سمات النظام الرأسمالى موضع دراسات مفصلة تشرح كيف أن التفاوت فى مستويات الثروات والدخول يتسع فيه، وأن سبيله للبقاء هو اختراع حاجات اصطناعية للمواطنين والمواطنات فلا يتوقفون عن استهلاك المزيد من السلع التى لا حاجة طبيعية لها، فلا بد ليس فقط من اقتناء ملابس جديدة مسايرة للموضة، ولكن تمتد مسايرة الموضة إلى السيارة وجهاز التلفزيون والهاتف الذكى وجهاز الحاسب الآلى وحتى نمط الأثاث فى المنزل وأماكن قضاء العطلات. وفى ظل هذا النظام الاقتصادى تتحول كل الأنشطة الإنسانية إلى سلعة تخضع لآلية السوق والتى يتحكم فيها من يملك دخلا أعلى، وهكذا يصبح التعليم سلعة، والعلاج سلعة، وارتياد المسرح والسينما سلعا، ويمتد ذلك إلى جوانب الحياة الأخرى.
السؤال الجاد: أين المخرج؟
بهذا المعنى الواسع والصحيح لما هى الحضارة الغربية نكتشف أنه فى الوقت الذى يشهد صعودا لقوى غير غربية على قمة النظام الاقتصادى والسياسى العالمى تتغلغل الحضارة الغربية وتكتسب الهيمنة فى كافة أنحاء العالم، ويتأكد أيضا أن هذه الحضارة تواجه أزمة، ولكن هذه الأزمة لا تمهد لسقوطها، فلا يبدو أن هناك بديلا جادا لأى من الأسس التى تقوم عليها هذه الحضارة، حتى من جانب أبناء هذه الحضارة الذين فصلوا فى أبعاد أزمتها. ومع ذلك فهى شأنها شأن الحضارات التى سبقتها هى أيضا نتاج تاريخى، له بداية وله نهاية، ولكن النهاية لن تكون بالضرورة نقيضا لهذه الحضارة، وإنما كما يوحى المنطق الجدلى الذى أخذ به مفكرها الأشهر جورج فريديريك هيجل، هو تفاعل بين نقيضين يؤدى إلى توليفة جديدة. فهل يكون لمثقفينا والفاعلين السياسيين فى مجتمعاتنا دور فى المشاركة مع المفكرين الغربيين الناقدين لهذه الحضارة فى التمهيد لهذه التوليفة؟!.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة