إصلاح الشرطة وليس فرض الطوارئ هو الحل
خالد فهمي
آخر تحديث:
الجمعة 1 فبراير 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
فى يوم 28 يناير 2011، يوم جمعة الغضب، مشيت مع أصدقائى فى مسيرة طويلة من جامع مصطفى محمود فى المهندسين قاصدين ميدان التحرير. ولمدة حوالى الساعة رددنا الهتافات التى أصبحت فيما بعد شعارات الثورة: «عيش، حرية، عدالة اجتماعية» و«سلمية، سلمية». وعندما وصلنا لميدان الجلاء واجهتنا جحافل الأمن المركزى بمدرعاتها وخوذاتها وهراواتها والمئات من قنابل الغاز. وأذكر جيدا كيف أننا لم نخف ولم نتراجع بل صمدنا أمام قوة الشرطة الطاغية، وكيف صممنا على ترديد هتافاتنا فى أثناء اللحظات القليلة التى تمكنا فيها من التقاط أنفاسنا. وحدث أننى وجدت نفسى على بعد متر واحد لا أكثر من أحد مجندى الأمن المركزى وكان ممسكا ببندقية غاز ومستعدا لإطلاق مقذوفته فى وجوهنا، إلا أنه كان مذعورا من أعدادنا، وأخذ يصيح فينا: «ما تقرّبوش»، ونحن نرد عليه: «طب ما تضربش». ثم أخذ يهز رأسه ويقول بلهجة صعيدية واضحة «ده غلط. فى حاجة غلط.» ثم خفض بندقيته وانهار فى البكاء. وبالرغم من أن الضابط الذى كان يراقب هذه المشهد عن قرب أصدر أوامره بإبعاد المجند لعربات الشرطة المتراصة خلف فندق الشيراتون واستبداله بآخر، إلا أننى أدركت أننى أمام لحظة تاريخية فارقة، وأن الشرطة قد انهارت بالفعل وأنها لن تتمكن من أن تحول بيننا وبين مقصدنا: التحرير.
•••
ومنذ ذلك اليوم وعلى مدى العامين الماضيين والأصوات تتعالى بضرورة إصلاح الشرطة وإعادة هيكلة قطاع الأمن برمته. فأحداث جمعة الغضب أوضحت أن قطاع الأمن المركزى، ذلك القطاع الذى أُنشئ عام 1968 فى محاولة لمواجهة اضطرابات المدن والذى تقوم فلسفته على استخدام أعداد غفيرة من المجندين المنحدرين من أصول ريفية لقمع المظاهرات الحضرية، ذلك القطاع لا جدوى منه أمام مظاهرات كتلك التى شهدتها جمعة الغضب. كما أثبتت المظاهرات العديدة التى اندلعت فى البلاد منذ ذلك اليوم وحتى الآن أن قطاعات عريضة من الشعب المصرى قد ضاقت ذرعا ليس فقط بسياسات الأمن المركزى بل بسياسات الشرطة التى اعتادت عليها أثناء حكم مبارك والتى لم تتغير بعد الثورة، من سوء استخدام ضباط الشرطة لسلطاتهم، للطريقة المهينة التى يتعاملون بها مع المواطنين فى الشوارع وفى الأقسام، لتجنيدهم للآلاف من المسجلين خطر للعمل معهم كمرشدين، لشيوع ممارسات التعذيب فى الأقسام وأماكن الاحتجاز ليس فقط لأعداء النظام السابق (وغالبهم من الإسلاميين) بل أيضا للمتهمين والمشبوهين فى قضايا جنائية عادية، حتى وصل الأمر لحالات وفاة عديدة وقعت نتيجة لهذا التعذيب المنهجى والمستشرى فى أقسام الشرطة فى طول البلاد وعرضها.
وأثناء العامين السابقين كثرت المقالات والدراسات المطالبة بضرورة وضع حد لهذه التجاوزات، وتعددت الاقتراحات الداعية لإصلاح الشرطة، بدءا من تغيير الزى الموحد، وانتهاء باقتراح أن يكون وزير الداخلية مدنيا وليس شرطيا، مرورا بإعادة النظر فى طريقة تدريب الضباط، وتغيير مناهج كليات الشرطة، ونزع الصفة العسكرية عنها، واستحداث آليات جديدة للرقابة المجتمعية على هذا الجهاز الحساس وإخضاعه لرقابة البرلمان والنيابات. كما بُحت الأصوات المؤكدة على أهمية هذا الملف، وأنه بمثابة رمانة الميزان، وأن عدم إصلاحه سيعوق استعادة القضاء لهيبته والاقتصاد لعافيته. كما كثرت التحذيرات أنه إذا لم تُتخذ الإجراءات الحاسمة بسرعة إصلاح هذا الجهاز فإنه من غير المستبعد أن ينتهى الطابع السلمى للثورة وأن تنحى الثورة منحى عنيفا دمويا.
•••
ولكن بالرغم من تعدد هذه الأصوات ومن تشخيص الداء واقتراح الدواء، فإن السلطات بدءا من حكم المجلس العسكرى وانتهاء بحكم الإخوان لم تعير هذا الملف الأهمية التى يستحقها، حتى وصل الأمر للانفجار الذى تشهده البلاد الآن. صحيح أن الأزمة العميقة التى نمر بها هذه الأيام لها أسباب كثيرة من انهيار الاقتصاد، لشلل الأداء الحكومى، لحالة الانقسام والاستقطاب الشديدة التى يعانى منها المجتمع، لأزمة الدستور الذى جاء ليزيد من الاستقطاب ويعمق من حالة عدم الاستقرار، لفشل المعارضة فى التعبير عن الاحتقان والغضب من حكومة قنديل ورئاسة مرسى. كل هذا صحيح ومهم، إلا أنى أظن أن فى القلب من هذه الأزمة، بل فى القلب من هذه الثورة، يكمن الملف الأمنى وفساد الشرطة. فتوالى أحكام البراءة التى نالها الضباط المتهمون بقتل المتظاهرين يحث المتظاهرين الشباب على إعادة النظر فى سلمية المظاهرات. وأحداث استاد بورسعيد فى فبراير 2012 سلطت الأضواء على الدور المريب الذى لعبه ضباط وقيادات الشرطة فى هذه الأحداث الدامية. وعدم قدرة أفراد الأمن المركزى فى السويس على التحكم فى أعصابهم، حسب ما قاله وزير العدل، أحمد مكى، فى مداخلته التاريخية مع علاء عبدالفتاح على إحدى القنوات التليفزيونية، أكد مرة أخرى سوء تدريب هؤلاء الجنود وعدم مهنية الجهاز برمته. ثم جاءات أحكام الإعدام التى صدرت فى هذه القضية بحق المتهمين المدنيين دون الضباط المتورطين فى نفس القضية لتوحى للكثيرين أن هناك خللا فى منظومة العدالة.
وعوضا عن إدراك خطورة إهمال هذا الملف وترك الشرطة دون إصلاح اتخذ الرئيس مرسى من الإجراءات ما يعمق الأزمة ويزيد الطين بلة، فلا هو أمر بإجراء تحقيق مستقل عن أحداث بورسعيد الدامية التى أعقبت النطق بالحكم ولا هو استدعى قيادات الشرطة لمساءلتها على الإفراط فى استخدام العنف وطبعا لا هو أقال وزير الداخلية، بل وفى تحد واضح للمنطق قرر مداواة المرض بأسباب الداء، فأعلن الطوارئ، وفرض حظر التجول فى مدن القناة، وأعطى الضبطية القضائية للشرطة العسكرية، وبذلك انتهج نفس أساليب مبارك الفاشلة التى اندلعت الثورة أصلا للتخلص منها. أما جماعته، فبدلا من أن يذكروه بخطورة الطوارئ وبأنهم كانوا أول ضحاياها وبأن الحلول الأمنية لا تجدى، تسارعوا لمباركة خطواته ولمطالبته باتخاذ المزيد من الإجراءات القمعية.
•••
إن الأزمة العميقة التى نمر بها البلاد الآن أزمة سببها الأول فساد القطاع الأمنى ويعمقها غياب الإرادة السياسية للقضاء على هذا الفساد. فكان يجب على الرئيس مرسى، الذى يمر على خروجه من سجون مبارك عامان، أن يدرك أن الأزمة الحالية لن تحل بانتهاج أساليب أمنية بل بإخضاع الجهات الأمنية للرقابة والمحاسبة. وكان يجب على جماعة الإخوان المسلمين أن تتذكر معاناتها من الطوارئ والسجون والتعذيب وأن تتمسك بضرورة إصلاح الداخلية. ويجب على المعارضة أن تعترف بفشلها التام فى التعامل مع هذه الأزمة وأن تفسح المجال لغيرها للتعبير عن معارضة حقيقية وفعالة للرئيس ولجماعته ولحكومته. وأخيرا، يجب على شباب هذه الثورة الذين فجروها والذين قادوها أن يدركوا أنهم وحدهم من بيدهم تشخيص صائب للأزمة ورؤية واضحة لسبل علاجها وعزيمة صلبة لمواجهتها.