مُنظَّمات حُقوق الإِنسان والنِّضال الاقتِصادى والاجتِماعى فى تونس
العالم يفكر
آخر تحديث:
الخميس 1 فبراير 2018 - 10:00 م
بتوقيت القاهرة
نشرت مؤسسة مبادرة الإصلاح العربى ورقة بحثية للباحث التونسى «حاتم شقرون» – أستاذ مساعد عرضى بكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس ــ ويُركِّز الباحث فى هذه الورقة على ثلاثِ حركاتٍ احتجاجيَّةٍ كُبرى شهِدتها ثلاث مناطق مختلفة من تونِس من أجل تسليط الضَّوء على طبيعة العَلاقات بين فاعِلى المُجتمع الحُقوقيِّ ومُكوِّنات المُجتمع المَدنى الأخرى، وخصوصا الحَركات الاِحتجاجيَّة، وكيفَ حاولتْ مُنظَّماتٌ ومدافِعون عن حقوقِ الإِنسان لعب دور الوَسيط بين حركاتٍ افتَقرت فى أحيان كثيرةٍ إلى وِعاءٍ سياسيٍّ من ناحية، ونِظامٌ حاكمٌ يفتقر إلى آليّاتٍ مستقرّة للتفاوض وحل النزاعات حول توزيع الثّروة والسُّلطة من ناحيةٍ أُخرى.
استهل الباحث حديثه بالإشارة إلى أن فترة ما بعد ثورة يناير 2011 فى تونس تميزت بلعب منظمات المجتمع المدنى دورا بارزا، حيث أصبح بعضها محركا أساسيا لدفع الدولة إلى الالتزام بإعادة بناء الحياة السياسية والسياسات الاقتصادية على أسس ديمقراطية تمثل فيها حقوق الإنسان إحدى القواعد الأصلية. وساهم نشطاء حقوقيون فى مسار البناء الديمقراطى، خصوصا من خلال الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسى والانتقال الديمقراطى، فى المرحلة الانتقالية الأولى التى امتدت حتى 23 أكتوبر 2011، تاريخ إجراء انتخابات المجلس الوطنى التأسيسى، وتواصل دور المجتمع المدنى بعد ذلك طيلة فترة إعداد الدستور من خلال النقاش العام حول مختلف الحقوق والحريات الواجب تضمينها فى الدستور الجديد.
ويمثل المجتمع المدنى فضاء صراع بين فاعلين وقوى مختلفة حول نظام الحكم وتوزيع الموارد والقيم، ويتجاوز فى هذا الفضاء فى شبكات متعددة ومتقاطعة فاعلون مختلفون فى صورة تجمعات غير حكومية وغير ربحية تمثل جوهر العمل المدنى لإيجاد ومناصرة حلول لمشكلات تهم المصلحة العامة، والمجتمع المدنى ليس تجمعا متجانسا يمكن تمثيله بصوت موحد كما أنه، فى الوقت نفسه، لا يتمثل فى مجموعة من المواطنين يدافعون عن مصالحهم الشخصية بطريقة منعزلة.
وبفعل التصحر السياسى الذى عانت منه تونس منذ الاستقلال حتى ثور 2011، كان العمل فى مجال حقوق الإنسان يتمحور حول الدفاع عن الحقوق السياسية والمدنية المفقودة بسبب قمع الدولة والتضييق الذى مورس على النشطاء السياسيين والحقوقيين على حد سواء. وكانت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية حاضرة بشكل أقل بالنظر إلى توخى الدولة سياسة اجتماعية حذرة، كان فيها الاتحاد العام التونسى للشغل شريكا مهما للنخبة الحاكمة فى الدولة.
ويضيف الباحث أن المجتمع المدنى عرف بعد الثورة عدة تغييرات، منها تغيير النظام القانونى للجمعيات عبر إصدار مرسوم 2011، والذى نص على ضمان «حرية تأسيس الجمعيات والانضمام إليها والنشاط فى إطارها.. وتدعيم دور منظمات المجتمع المدنى وتطويرها والحفاظ على استقلاليتها». وصار للجمعيات أن تتأسس وفقا لنظام أسهل بكثير من ذى قبل أساسه دعم حق التنظيم. وتجاوز عدد الجمعيات 18 ألفا سنة 2016، حسب تصريح الوزير المكلف بالعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدنى وحقوق الإنسان وقارب العشرين ألف فى عام 2017، وتنوعت الجمعيات لتشمل المجالات التنموية والنسائية والخيرية والدينية والعلمية والحقوقية والثقافية وتجاوز عدد هذه الأخيرة 400 جمعية عاملة فى مجال حقوق الإنسان.
برزت قضية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية من خلال حراك الحوض المنجمى بداية من 2008 برعاية الاتحاد العام التونسى للشغل. وكانت هذه الانتفاضة فى منطقة على هامش السلطة والثروة فى تونس محاولة لإعادة التوازن فى توزيع ثروات تونس الطبيعية ولكنها حققت نجاحا سياسيا أكثر منه اقتصاديا واجتماعيا. وبعد ثورة 2011 أعادت احتجاجات الكامور ومسألة إدارة واحات جمنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى صميم النضال العام، مع تغيير فى الاستراتيجية المتمثلة فى إدارة الصراع دون غطاء من منظمات حقوقية مثلما حدث بدرجات متفاوتة فى حراك الحوض المنجمى.
حراك الحوض المنجمى:
ترجم حراك الحوض المنجمى فشل سياسات الدولة فى تشغيل وفساد عدد من القيادات النقابية التى كانت تمثل الوسيط والضمانة بين الدولة وآليات تطبيق سياستها التشغيلية فى منطقة الحوض المنجمى من خلال إشرافه على نصيب الاتحاد فى تعيينات لوظائف فى مجمع الفسطاط شابتها محسوبية وفساد. حيث سيطر بعض المقربين من السلطة على هذه التعيينات تحت حماية السلطات الجهوية والوطنية ومن قيادات المركزية النقابية.
واستفادت طبقة سياسية على الصعيد الوطنى من هذا الحراك السياسى ولكنه لم يؤدِ إلى نتائج جوهرية ملموسة على صعيد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فى الحوض المنجمي؛ حيث ظلت إجراءات التشغيل فى مجمع الفسطاط تخضع لنظام حصص موزعة بين الحزب الحاكم والاتحاد الجهوى للشغل وخضعت هذه الحصص بدورها لتقسيم يعتمد على التوازن القبلى. وكانت مطالبات الأقلية القبلية برفع نصيبها فى حصة الاتحاد العام للشغل سببا رئيسيا لاندلاع الحراك خصوصا وقد رفضت الأغلبية المسيطرة على اتحاد قفصة الجهوى للشغل هذه المطالب.
ومن الجدير بالذكر أن الحق فى العمل كان هو جوهر حراك الحوض المنجمى فى الظاهر، ولكن الصراع الرئيسى يتمثل حول تقسيم عطايا لأبناء المنطقة عبر وسطاء الاتحاد العام التونسى للشغل. هذه الزبائينية كانت آلية الدولة لامتصاص وتحويل مسار أى حراك من شأنه أن يفتح النقاش والجدل حول السياسات الاقتصادية والتشغيلية التى تنتج أزمة متكررة وصراعات ثانوية، كان من بينها التشاحن القبلى الذى اصطفت فيه الدولة خلف معولها المتمثل فى أغلبية نقابية وحزبية ترتكن بدورها على أغلبية قبلية بقمع حراك الاقلية.
إعادة تشكيل الوعى الاحتجاجى وطرق النضال:
كرست ثورة 2011 وجود مأسسة الحقوق السياسية والمدنية فى الفضاء العام، ما أتاح لعدد من الفاعلين الحقوقيين أن يركزوا جهودهم متمتعين بالحق فى التنظيم والاحتجاج والتجمع على دعم حقوق اقتصادية واجتماعية. وكانت الاحتجاجات فى الكامور وواحات جمنة ترجمة لهذا التغيير.
أولا: حراك واحات جمنة:
قدمت تجربة جمعية جمنة مثالا على نجاح مشروع اقتصادى تشاركى تجاوز أبعادا سياسية وأيديولوجية تسببت فى فشل نماذج أخرى من الحراك الاحتجاجى من أجل نيل حقوق اقتصادية واجتماعية. وعلى الرغم من تنوع بل وتصادم انتماءات أعضاء الجمعية السياسية، فقد تمكنوا من التوافق على أهداف مكنتهم من تأسيس نموذج جديد وناجح مبدئيا وفق النتائج التى حققتها.
نجحت الجمعية فى استصلاح أراض وزراعتها واستثمار الواردات فى تنمية الجهة سواء من ناحية البنية التحتية أو توفير فرص عمل لأبناء الجهة، ولكن غياب الدولة لم يدم طويلا حيث فى عام 2014 طالبت الدولة بتفعيل حقها فى ملكية الأرض، ما أجبر مسيرى الجمعية على تنظيم احتجاجات عامة وعلنية. كما انتهزت الجمعية مناسبات مثل عمليات التعاقد على المحصول لتحويلها إلى مهرجان دعم لها من خلال حضور أغلب مكونات المجتمع المدنى ووسائل الإعلام الوطنية والدولية. ولقد اتهم البعض تجربة جمنة بأنها سعت لأن تعمل كدولة داخل الدولة، لكن التجربة ذاتها كرست ودعمت قيمة النضال من أجل الدفاع عن حقوق اقتصادية واجتماعية. وتميزت طرق الاشتغال داخل الجمعية ذاتها بالديمقراطية واندماج ونشاط المنخرطين فيها، كما أظهرت تشكل وعى يعلى من قيم التعايش المشترك فى المنطقة.
ثانيا: حراك الكامور:
شكل حراك الكامور واجهة أخرى من نجاحات النضال من أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية واختلفت بوضوح عن احتجاجات أخرى من الناحية التنظيمية والوظيفية. وتشابهت أسباب الحراك الاحتجاجى بتطاوين مع بقية الاحتجاجات فى تونس فى المطالبة بتنمية المنطقة وتشغيل أبنائها إلا أنها نبعت من حالة وعى بأهمية التحرك النضالى من أجل تأمين حقوق اقتصادية واجتماعية وثقافية من سلطة سياسية اعتمدت التسويف وتركز بهوس على المشاكل السياسية الفوقية على الصعيد الوطنى مهملة علاقتها العمودية مع الفئات المهمشة.
ختاما، رغم المساندة التى حظيت بها الحركات الاحتجاجية فى تونس من جانب المنظمات الحقوقية فإنها لم ترتق إلى حدود التفاعل الإيجابى الذى يؤدى إلى مخرجات عملية؛ حيث انحصر التعاون فى حدود التضامن مع الاحتجاجات سواء بالبيانات والوقفات الاحتجاجية التضامنية وزيارة المعتصمين أو المحتجين.
ولقد شهدت الحركات الاحتجاجية المطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فى تونس تطورا كبيرا على مستوى التغييرات الهيكلية الضخمة التى أثرت على آليات وطرق الصراع واختيار الحلفاء. واستدعى هذا كله ضرورة التدقيق فى خيارات الحشد والتنظيم وطرق الاحتجاج لضمان مكاسب مقبولة دون الوقوع فى مزيدات الوسطاء. ومن التحديات التى تواجه الفاعليين الحقوقيين حول آليات عملهم فى مسائل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وطبيعة علاقاتهم وتعاونهم مع الحركات الاجتماعية وحول قدرتهم على الخروج من أدوار الوساطة التى تتأكل مساحتها المتاحة بسرعة واستكشاف مساحات أخرى يمكن أن تتعامل بوضوح مع معضلات التمثيل والوساطة بين المدافعين عن حقوق الإنسان وخاصة فى مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
النص الأصلى